26‏/05‏/2011

موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية

 26/05/32 12:00:00 السنوسي محمد السنوسي 

 موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية
في عالمنا العربي والإسلامي، بل في العالم بوجه عام يصدر كلَّ يوم عشرات وربما مئات الكتب، لكنَّ قليلاً منها يستطيع أن ينفذ من عالم «الفكر» إلى عالم «السياسة»، ومن إطار النظر والتأمل إلى الفعل والتأثير.
وأقل من ذلك، من تواتيه الفرصة ليكون هو منفِّذ وصانع السياسات التي اجتهد في بلورتها والتنظير لها؛ فثمة دائرتان - خاصة في عالمنا العربي والإسلامي - تبدوان للأسف منفصلتين في أوقات كثيرة، هما: دائرة «الفكر»، ودائرة «السياسة»؛ فمن لديه «الفكر» لا يتمكن من تحويل النظريات والأفكار إلى برامج وخطط، ومن بيده «القرار» قلَّما يستند إلى أصحاب الخبرة وأهل «الذكر». ولعل هذا يمثل أحد أوجه «الانفصام» الذي نعانيه في واقعنا المعاصر.
بعد هذه المقدمة أستطيع أن أقول: إن الاحتفاء الذي صاحب صدور الترجمة العربية لكتاب «العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية» للبروفيسور (أحمد داود أوغلو) وزير الخارجية التركي، من قِبَل مفكرين ومثقفين وسياسيين في الحفل الذي أقيم في العاصمة القطرية في (20/ 10/2010م) وفي غير ذلك من المنتديات الفكرية والثقافية. إن ذلك الاحتفاء لم يكن احتفاءً بصدور كتاب مهمٍّ فحسب، بل بسياسة دولة استطاعت أن تلملم أوراقها، وتعيد حساباتها، وتدرك جيداً المتغيرات الداخلية والدولية وأن توظفها إلى أقصى حد، مستندةً في ذلك إلى الموقع «الجيوستراتيجي» وإلى «الامتداد التاريخي» اللذين يشكلان معاً «عمقاً إستراتيجيّاً» يُمكِّن تركيا بقيادة حكومة «العدالة والتنمية» من أن تتحول من «جسر» و «طرف» في التكتلات والأحلاف إلى «مركز» و «ملتقى» حضاري وسياسي واقتصادي في آن واحد.
تلك بإيجاز الفكرة الأساسية التي أقام عليها أوغلو نظريته الفريدة، ورؤيته لدور تركيا في كتابه «العمق الإستراتيجي» الذي ألَّفه قبل عشر سنوات حين كان مستغرِقاً في العمل الفكري والأكاديمي، ثم أتيح له أن يطبِّق نظريته تلك عمليّاً حين تولى منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003م، ووزارة الخارجية التركية عام 2009م، لكن كتابه الذي ألَّفه عام 2000م، وطُبع 50 طبعة وتُرجم إلى عدة لغات، لم يترجم إلى العربية إلا بعد عشر سنوات[1].
أما عن العمق الجغرافي لتركيا فيذكر أوغلو أن جغرافية تركيا تعطيها حال دولة مركزية فريدة تختلف عن الدول المركزية الأخرى؛ فعلى سبيل المثال تُعتبَر ألمانيا دولة مركزية في أوروبا ولكنها بعيدة جغرافياً عن إفريقيا وآسيا، وروسيا أيضاً دولة مركزية في أوروبا وآسيا لكنها بعيدة جغرافيا عن إفريقيا، وإيران دولة مركزية في آسيا لكنها بعيدة جغرافياً عن أوروبا وإفريقيا. وبنظرة أوسع فإن تركيا تحتفظ بالموقع الأفضل في ما يتعلق بكونها دولة أوروبية وآسيوية في الوقت نفسه، كما أنها قريبة من إفريقيا أيضاً عبر شرق البحر المتوسط؛ ومن ثَمَّ فإن دولة مركزية تحتفظ بموقع متميز كهذا لا يمكن لها أن تعرف نفسها من خلال سلوك دفاعي، ويجب ألا يُنظَـر إليهـا كدولـة جسـر تربط نقطتين فقـط، ولا دولة طَرفيَّة، أو دولة عادية تقع على حافة العالم الإسلامي أو الغربي.
وأما عن الشق الآخر للعمق الإستراتيجي (وهو الامتداد التاريخي)، فقد أوضحه أوغلو بالإرث العثماني لتركيا الذي ضم هويات وقوميات متعددة امتدت باتجاه العالمين (العربي والإسلامي) والقوقاز وأرمينيا وإيران وإلى أوروبا أيضاً.
ويرى أوغلو أن التاريخ والجغرافيا ثابتان لا يمكن تغييـرهما ولكـن يمكن إعادة قـراءتهمـا؛ ولذلك دعـا إلـى ما أسماه «تطبيع التاريخ» أي إعادة التكامل بين المجتمعات والاقتصاديات والسياسات.
إن «العمق الإستراتيجي» - كما يؤطر له أوغلو - يستتبع عدة أمور، أهمها:
إنهاء المشكلات: أي خفض المشكلات مع دول الجوار إلى درجة الصفر، وصولاً إلى درجة أرقى؛ حيث إقامةُ علاقات إستراتيجية معها؛ ويرى أوغلو في ذلك بديلاً (بل ردّاً عمليّاً) على نظريات صراع الحضارات ونهاية التاريخ، التي توجِّه بشكل أو بآخر العلاقات الدولية المعاصرة خاصة من جانب الدول الكبرى؛ وليس أدلَّ على ذلك من التحول الجذري لتركيا باتجاه تطبيع العلاقات مع سوريا بعد أن كانت الدولتان على شفا حرب مؤكدة.
الثقة بالنفس: فينطلق أوغلو لا من التقسيم الشائع الذي يشطر العالم إلى دول متقدمة وأخرى نامية، بل من كون الدول - ومن ثَمَّ الحضارات - تقف على قدم المساواة، أو ينبغي أن يكون ذلك.
إن هذه الثقـة بالنفس هي التـي تجعل الدول - كما يرى أوغلو - تتغلب على الشعور بالدونية تجاه طَرَف مَّا؛ ونحن نستطيع أن نلمس هذا المفهوم عملياً من خلال موقف تركيا المساند لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» بعد نجاحها في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006م، متحديةً في ذلك الدول الغربية التي فرضت «طوقاً حديدياً» على حكومة حماس، بل وقفت تلك الدول متخاذلة (أو متواطئةً) أمام العدوان الصهيوني (2008 - 2009م) على غزة. كذلك من خلال موقف تركيا تجاه إسرائيل خاصة بعد اعتدائها على «أسطول الحرية» على النحو، الذي فصَّلناه في عدد ماضٍ من مجلة «البيان».
ثمة أمر يجب أن نلتفت إليه النظر؛ وهو أن طريقة تحليل أوغلو للأسس والمحددات لدور تركيا (جغرافيّاً وتاريخيّاً وحضاريّاً)، هي طريقة في التحليل من الجائز، بل من الواجب أن تستفيد منها أي دولة تبحث لها عن موطئ قدم في السياسة الدولية؛ إذ لا يخلو شعب من الشعوب ولا حضارة من الحضارات من مميزات وخصوصيات تمثل لها في حال تفعيلها وتَمَثُّلها «عمقاً إستراتيجيّاً»؛ حتى إن اختلفت صورة ذلك من شعب لآخر، ومن حضارة لأخرى.
ويبقى السؤال قائماً: إلى أي مدى ستنجح دولنا العربية في الاستفادة من هذه الأفكار، ومدِّ الجسور مع تركيا على جميع المستويات: سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق