30‏/06‏/2011

المكونات الأساسية للخلطة السحرية لنجاح التجربة التركية ونصيب الحركات الإسلامية منها


 
المكونات الأساسية للخلطة السحرية
تمت الإضافة بتاريخ : 29/06/2011م
الموافق : 28/07/1432 هـ
الكاتب : جمال زواري أحمد
خاص ينابيع تربوية
إن النجاحات المتتالية التي حققتها وتحققها الحركة الإسلامية التركية ممثلة في حزب العدالة والتنمية ، وكذا النسب المرتفعة التي يتحصل عليها في المواعيد الانتخابية المتوالية وفي أجواء ديمقراطية حقيقية ، وتصدّره المتكرر للمشهد السياسي والانتخابي التركي بمنحنى بياني تصاعدي ملفت للانتباه ومحيّر لدى البعض ، رغم تفرّده بالسلطة تقريبا لعهدتين متتاليتين وهو في بداية ثالثة ، وعادة فإن الرأي العام في أي بلد فيه ديمقراطية وتنافس حقيقيين يصاب بالملل عند توالي وتكرار تصدّر نفس الجهة والوجوه ، ويرغب في تغيير السروج كما يقال فإن في التغيير راحة ، لكن المشهد التركي في حالة العدالة والتنمية يحدث الاستثناء ، بحيث تزداد شعبية الحزب ومشروعه وبرنامجه وكوادره ورجاله وترتفع كتلته الانتخابية ويتوسع وعاؤه الانتخابي ، فيكتسب دعما أكبرا ويكتسح مساحات جديدة جغرافيا وفئويا ، ويتجاوز كل العراقيل التي تواجهه والعقبات التي توضع في طريقه ، ويتعدّى كل الإحراجات التي يحاول خصومه أن يوقعوه فيها بين الحين والآخر ، ويخرج من كل المعارك التي يثيرها هؤلاء أكثر قوة وأعمق تأثيرا وأوسع أثرا وأكبر قبولا لدى الرأي العام التركي الحاضن الفعلي للتجربة والداعم الأكبر لها ، وكذلك الرأي العام الإسلامي وحتى الدولي .
ونرى بالمقابل الحركات الإسلامية منبهرة بالتجربة التركية ونجاحاتها المتوالية وتحتج بها أمام خصومها الإيديولوجيين والسياسيين ، دون أن تكلّف نفسها تحويل هذا الانبهار والإعجاب إلى خطوات عملية فعلية للاستفادة منها وتجسيد عوامل نجاحها على مستوى أقطارها ومساحات عملها وتحركها ، وتكييفها حسب خصوصيتها وبيئتها وظروفها ، لأننا ندرك أن استنساخ التجربة بحذافيرها كما هي أمر مستحيل ، لأن لكل قطر معطياته وظروفه ، لكن ندرك كذلك أنه يمكنها أن تستحضر المعالم الكبرى لنجاح التجربة وتسعى إلى توفيرها ما أمكن على مستواها وتخرج نسخة معدلّة ومنقحة لها تتصدّر بها مشهدها وتفرض بها حضورها ، لأنه في بعض الأحيان يكون مبرر اختلاف البيئة والظروف وخصوصية التجربة ما هو إلا تبرير عجز وتخلّف وصناعة أعذار ونزول سقف ، أكثر منه واقعية تحليل وموضوعية تشخيص.
وحتى لا نكثر التفلسف كثيرا ، فإننا نؤكد أن لنجاح التجربة التركية ثلاث ركائز مهمة وعوامل كبرى ومكونات أساسية ، ساهمت مجتمعة في صناعة هذا النجاح والتميز ، وتكوين الخلطة السحرية التي جعلت هذا النجاح أمرا واقعا لا خيالا ، ومتكررا وتصاعديا لا طفرة مؤقتة ، وحقيقة ملموسة لا إدّعاء رخيصا ، ويتفرّع عن هذه الركائز والعوامل والمكونات كل العوامل الفرعية الأخرى .
ويمكن للحركات الإسلامية في بقية الأقطار أن تفعل الشيء نفسه لو استطاعت أن توفر هذه الركائز وتشكل هذه الخلطة بنفس مكوناتها مع ضرورة النكهة والبهارات المحلية على مستوى أقطارها ، بشكل احترافي ودائم وناضج ، بعيد عن الطفرات المؤقتة وأساليب الهواة وتوظيف الشعارات دون مردود عملي تنفيذي إنجازي وتطبيقي وملموس في واقع الناس.
لأننا رأينا ظاهرة التهافت على تمثل التجربة التركية في العديد من الأقطار قاصرة على تبني الاسم ورفع اللافتة واتخاذ الشعار دون تبني المنهج واستيعاب الجوهر وتشرّب التجربة وتوفير نفس عوامل وركائز ومكونات النجاح .
هذه الركائز والمكونات متمثلة فيما يلي :
1) ــ المال والاقتصاد :
أول هذه الركائز التي قامت عليها التجربة وساهمت في تطويرها ونجاحها ، وأول المكونات الأساسية لخلطتها السحرية هو المال والاقتصاد.
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية منذ بدايتها أهمية هذه الركيزة في نجاح مشروعها والتمكين له في واقع الناس ، وأنه لا يمكن للحركة أن تنجح سياسيا ومجتمعيا ، ما لم تنجح ماليا واقتصاديا ، لذلك عملت على تجذير تواجدها ونفوذها الفكري والتربوي والتعليمي في صفوف الجالية التركية في الخارج وربطها بالوطن الأم واستثمار قدراتها المالية بالعملة الصعبة في المساهمة في المشروع التنموي الوطني الطموح والصاعد عند انطلاقته .
كما عملت على التواجد القوي والنافذ في الحراك الاقتصادي بما يشكل لوبيا مؤثرا على المستويين الاقتصادي والسياسي ، من خلال تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين المعروفة اختصارا بالموصياد سنة 1990 ، وقد بدؤوها بخمسة رجال أعمال ثم انطلقت في التوسع والانتشار حتى أصبحت أكبر تجمع مالي واقتصادي ليس في تركيا فحسب بل في العالم الإسلامي كله ، وتجاوز عدد أعضائها من رجال الأعمال والاقتصاديين 4500 عضو منهم 1600 عضو من رجال الأعمال الشباب ــ إن لم يكن العدد قد زاد وتضاعف الآن ــ ، يمثلون في مجموعهم حوالي 15 ألف شركة ، للمنظمة 30 فرع في تركيا و32 مكتب ارتباط حول العالم ، يعتبر مؤتمرها ومعرضها السنوي حدثا مهما تحج إليه الوفود الاقتصادية والسياسية من كل ربوع الدنيا ، لما يحمله من فرصة سانحة للجميع للاستفادة وتبادل الخبرات وكذا عقد الصفقات.
وقد استطاعت الموصياد أن تكون الداعم القوي والدرع الواقي والعنصر المؤثر والعامل الصانع لنجاح التجربة والدليل العملي والواقعي على قدرتها على صناعة التنمية المتكاملة والتميز الكبير ، ممّا جعلها تحقق بشكل تصاعدي واضح للجميع معدلات تنموية مرتفعة في كل المجالات ، بداية من دخل الفرد إلى الميزان التجاري إلى الدخل القومي العام إلى سياسات التصنيع إلى معدلات الإنجاز في البنى التحتية بأرقام مذهلة إلى الاهتمام بالفئات الفقيرة ومحدودة الدخل ، وكذلك الانتقال بالاقتصاد التركي من حافة الإفلاس والفساد المالي الكبير إلى الوصول به إلى المرتبة 16 عالميا وهكذا..
والنجاح التنموي الملفت والمتصاعد عند الإمساك بدفة السلطة والدولة ، هو النتيجة المنطقية لتجذر الثقافة المالية والاقتصادية لدى الحركة الإسلامية التركية منذ انطلاقتها وإدراكها المبكر لأهميتها ودورها المحوري في التمكين للمشروع وإحداث التغيير المنشود ، وهو ما ينقص الكثير من الحركات الإسلامية في أقطار شتى ، لأن غياب الأمن الاقتصادي للحركة الإسلامية ، وهو الوضع المالي الكفيل بتجذير أثرها في المجتمع ، وامتداداتها في الزمان والمكان، وتوجيهها للعجلة الاقتصادية والسياسية من خلال الحركة الاقتصادية ، يجعلها عارية الظهر قصيرة اليد منخفضة السقف محدودة الاهتمام.
إن الحركة التي ما تزال تعتمد في نشاطاتها على إسهامات أفرادها وأعضائها فقط ، هي حركة ـ مهما ظنت أنها متسعة ـ محدودة حجما وأثرا.
إن التجذّر الاقتصادي للحركة الإسلامية يعني امتدادها في المجال الاقتصادي الضخم استثمارا واستيعابا ، أمّا في مجال الاستثمار فهو إنشاء المشاريع والإسهام فيها ، أمّا استيعابا فهو العمل الجاد على مدّ ظلال الدعوة والحركة إلى كبار المستثمرين ورجال الأعمال ، وكذا أطر الشركات ومستخدميها والانفتاح عليهم ، الأمر الذي يؤدي إلى ضمان استقرار اقتصادي للحركة وتمكينها من التأثير الاجتماعي والسياسي من البوابة الاقتصادية .
إن الأمن الاقتصادي يحقّق طمأنينة للحركة تضمن لها الامتداد وتشعرها بالتمركز القوي في المجتمع ومؤسساته ، كما أنّه يساعد على النجاح في معركة البدائل على مستوى الإعلام والفن وغيرهما، ويضمن تفرغ الكفاءات للتكفّل بمسؤوليات العمل المختلفة والمتنوعة ، بحيث لا تبقى الحركة تعتمد على التطوع وكفى في جميع مستويات عملها ، ممّا يجعله قلقا ومضطربا ، ويكفي تأخير أجور أعضائها بعض شهور للإجهاز عليها وإصابتها في مقتل ، بنزول سقف هؤلاء الأعضاء من استشراف التغيير الاجتماعي والسياسي ، إلى حمل هم دخول الراتب وتأخره ، خاصة ونحن نعلم أن غالبية أعضاء الحركات الإسلامية رجال تعليم أو موظفون صغار أو متوسطون أو مهنيون أو طلبة ، وقليل من يشذ عن هذه المجالات.
فهذا العامل الأول والأهم والمكون الرئيسي للخلطة السحرية لتراكم نجاح التجربة التركية ، فإذا ما أرادت الحركات الإسلامية السير على خطاها ، فما عليها إلا أن تكون بدايتها من هنا ، وأن تتأكد أنه لا يمكن لها أن تنجح سياسيا بشكل لافت ومتكرر إذا ما كانت فاشلة وراسبة ماليا واقتصاديا على مستوى داخلها وكذلك على مستوى محيطها.
2) ــ الإعلام :
ثاني مكون للخلطة السحرية التركية الذي ساهم في نجاح التجربة ، وأحد الركائز المهمة التي حمت ظهرها ومكّنت لها وجعلتها مأوى أفئدة الشعب التركي ومحل اهتمامه هي الإعلام وما أدراك ما الإعلام .
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية مبكرا كذلك أهمية هذا المكوّن ودوره وفعاليته في التأثير والتمكين والحماية ، فعملت منذ انطلاقتها الأولى على صناعة إعلام خاص بها يكون له صوت محترم ومسموع في الساحة ، فأسست الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية والدورية ، ثم الإذاعات والقنوات التلفزيونية ومراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
وقد تطور التواجد الإعلامي للإسلاميين الأتراك بمختلف تشكّلاتهم واهتماماتهم مع تطور المسيرة ، وبلغ ذروته واحترافيته من خلال تجربة حركة فتح الله كولن الفكرية والتربوية والتعليمية والثقافية ، والعدالة والتنمية السياسية ، فتذهل بحق عندما تسمع وتقرأ عن العدد الكبير الذي يملكه أصحاب التجربة من وسائل ووسائط إعلامية مختلفة تصنع الرأي العام وتؤثر فيه وتسوّق للتجربة ونجاحاتها وإنجازاتها في المجالات المختلفة ، فجريدة يومية مثل:(زمان) مثلا التابعة لحركة فتح الله كولن تعتبر من أوسع الجرائد التركية انتشارا وأكثرها توزيعا ، حيث توزع حوالي 800 ألف نسخة يوميا ولها وكالة أنباء مرتبطة بها هي وكالة جيهان .
وهذا المكوّن المهم المساهم بدوره في نجاح التجربة هو نتيجة منطقية للمكوّن الذي سبقه ، فلا يمكن صناعة إعلام قوي ومؤثر واحترافي بقدرات مالية واقتصادية منعدمة أو متواضعة.
والحركات الإسلامية إذا أرادت تمثل التجربة في خطوطها العريضة على الأقل وفي أصولها ، لا بد أن تمرّ من هنا حتما ويكون لها نصيب معتبر من هذا المكوّن كذلك(الإعلام)، وإلا فهي تنفخ في رماد كما يقولون وتهرش في مكان لا يستدعي الهرش أصلا ، فكيف يمكن لحركة أن تنافس على تصدّر المشهد السياسي وهي بلا لسان ولا صوت يعبر عنها وعن مواقفها ومشاريعها وإنجازاتها ورجالها ، ويسوّق كل ذلك للشرائح المجتمعية المختلفة المشكلة للرأي العام ، الأمر الذي يجعل هذه الشرائح تتعرف على الحركة ومشروعها وأفكارها ومواقفها وبرامجها بشكل مباشر ومن خلال إعلامها وليس من إعلام خصومها وحتى أعدائها.
فقد أصبح غير مسموح البتة ولا مقبول ولا مبرر كذلك ، الغياب والعجز والتخلف والحضور الباهت إن لم نقل المعدوم إعلاميا ، في عصر الوسائط الإعلامية المتطورة ، بحيث أصبحنا نعيش زمن الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود واختزلت المسافات والزمن واختصرت التاريخ وتكاد تلغي الجغرافيا ، حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه وهو في مقعده.
فالإعلام كان المكوّن الأساسي الثاني للخلطة السحرية التركية ، والذي ساعد على تجذرها وإيصال صورتها الحقيقية والواقعية للرأي العام ، ممّا أكسبها إعجابه وانبهاره ومن ثم دعمه ومناصرته.
وتستطيع القول ولا حرج عليك كذلك أنه لا يمكن للحركة الإسلامية في أي قطر كانت وفي أي موقع أو مرحلة هي ، أن تحلم بالتصدر وأن تنجح سياسيا إذا كانت فاشلة وعاجزة وغائبة ومتخلفة إعلاميا.
3) ــ المرونة السياسية :
والمكوّن الآخر المهم للخلطة السحرية للتجربة التركية والضلع الثالث المتمم لمثلث المكوّنات الأساسية لها هو المرونة السياسية ، التي ساهمت بدورها بشكل فعال في تجاوز العقبات والمطبّات التي وضعت في طريقها ، وأفشلت من خلالها كل المؤامرات التي حيكت ضدها ، وأبطلت مفعول كل القنابل الموقوتة التي زرعت في مسار صعودها ، بل عن طريق هذه المرونة السياسية استطاع روّاد التجربة والقائمون عليها بذكاء ، أن يحوّلوا الكثير من هذه المطبّات والمؤامرات والقنابل إلى عوامل مساعدة على النجاح ، وتقزيم أصحابها وفضحهم وكشفهم أمام الرأي العام التركي وحتى العالمي.
وعن طريق هذه المرونة كذلك ، استطاعوا أن يتجاوزوا إحراجات الإيديولوجيا وتوريطات الشعارات التي لا ينبني عليها عمل ، وانتقلوا من الإسلام العتيق إلى الإسلام الأنيق كما ذكر الشيخ أبو جرة سلطاني ، أو من إسلام الشعارات إلى إسلام القيم والأبعاد الحضارية ، في صور إنجازات وتجسيد عملي على الأرض وفي الواقع ، دون ضرورة رفع اللافتة والشعار ، ودون التنازل عن الثوابت والأصول والمبادئ.
وتمثل عنصر المرونة هذا لديهم كذلك ، في قدرة هائلة على الانفتاح على كل مكوّنات وأطياف الشعب التركي والتعايش مع الجميع إلا من أبى ، حتى من يخالفونهم الرأي والتوجه والخيارات ، واستطاعوا أن يستوعبوا الكثير من هؤلاء ويدمجونهم في مؤسسات الحزب المختلفة أو يحيّدونهم على الأقل في صراعهم الشرس مع عتاة العلمانية.
كما تظهر مرونتهم كذلك ، في تعاملهم بكثير من الصبر والحكمة والهدوء والأعصاب الباردة مع المؤسسة العسكرية اللاعب الرئيسي في السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية العلمانية ، ممّا جعلهم يكسبون النقاط بشكل مستمر ، على حساب تشددها ومحاولاتها المستميتة لإقصائهم والانقلاب عليهم وحلّ حزبهم ، فأفشلوا كل ذلك بمرونتهم السياسية ، مع سعيهم الحثيث وحرصهم الشديد على ضمان مؤسسة عسكرية قوية ومحترفة ونزيهة وخالية من كل مظاهر الفساد ، تقوم بدورها الدستوري البعيد عن التدخل السافر في الشؤون السياسية للبلد ، فخطوا بذلك خطوات مهمة وجبارة في تمدين النظام السياسي التركي بشكل كبير ، وغير قابل للرجوع إلى الوراء.
كذلك تظهر هذه المرونة ماثلة للعيان في التعامل مع القضية الكردية وهي قضية بالغة الحساسية لدى غالبية الرأي العام التركي ، ومعها كل الأقليات الموجودة عندهم .
أيضا تظهر الآثار الإيجابية لهذه المرونة في المواقف من القضايا الخارجية والفهم الجيد للخريطة السياسية الدولية والتوازن الفعال في علاقات تركيا الدولية ، الأمر الذي أكسبها حضورا أكبرا وأهمّا وأكثر تأثيرا في السياسة الدولية ، حتى أصبحت تركيا لاعبا أساسيا لا يمكن تغييبه عن المشهد الدولي ، بل يحسب له ألف حساب ، كما استطاعت الدبلوماسية التركية أن تقدم نفسها كوسيط مهم لحل الكثير من الأزمات والنزاعات الإقليمية والدولية ، خاصة بعد تولي الخبير الإستراتيجي أحمد داوود أوغلو دفتها ، والقاريء لكتابه العمق الإستراتيجي يدرك هذه المرونة والحكمة والذكاء وسعة الأفق.
ومكوّن المرونة السياسية هذا ، مرتبط ارتباطا وثيقا كذلك بالمكوّنين الذين سبقاه ، فلا يمكن أن تكون مرنا سياسيا وأنت عاري الظهر اقتصاديا وإعلاميا ، عندها يكون عنصر المرونة هذا عامل ضعف وإنزال سقف واستبساط من طرف المنافسين والخصوم والمتربصين ، أكثر منه قوة وحكمة وواقعية ، كما أن القوة الاقتصادية والمالية والتنموية والإعلامية تفتح مجالا واسعا وآفاقا رحبة للمرونة السياسية التي نتحدث عنها ، كي تبلغ الأهداف بسهولة ويسر وتحقق مبتغى أصحاب التجربة بشكل سلس وتفرض احترامها وقبولها وحتى هزيمتها ، للآخر المحايد أو المنافس أو المتربص.
فالكثير من الحركات الإسلامية السياسية على وجه التحديد ، تدرك أهمية عامل المرونة هذا ، بل ومارسته وتمارسه بشكل جيّد ومقبول في العديد من المحطات والمواقف ، لكن لمّا كان ويكون منبتا عن قوة مالية واقتصادية وإعلامية تعضده وتحميه وترعاه وتبرره وتسوّقه ، فإنها حتما لا يكون لها المردود المرجو والنتائج المتطلّع إليها من خلال تطبيقه.
في خلاصة الموضوع نقول أن معادلة نجاح التجربة التركية أو خلطتها السحرية كما عبّرنا عنها في هذا المقال ، تقوم على هذا الثالوث الرئيس ، الذي تتفرّع عنه كل العوامل الجزئية والتفصيلية الأخرى ، التي ساهمت مجتمعة في تحقيق كل هذا النجاح والتميز ، وما على الحركات الإسلامية المنبهرة والمعجبة بالتجربة ونتائجها وإنجازاتها ، إذا أرادت تمثلها والاستفادة منها ، أن تراهن على هذا الثالوث كذلك مجتمعا ، مهما كانت خصوصيتها وبيئتها وظروفها .
فمال واقتصاد قوي + إعلام محترف وقوي كذلك + مرونة سياسية مدروسة ومخطط لها = تجربة رائدة وناجحة ومتميّزة.
المصدر:  
 http://www.yanabeea.net/details.aspx?lasttype=3&pageid=3931

28‏/06‏/2011

المصريون ينفقون 56% من دخولهم على الطعام.. تقرير حكومي: 77% من سكان الريف تحت خط الفقر و30% من سكان الحضر يعانون نقص الغذاء





كتبت سارة عبد المنعم (المصريون):   |  28-06-2011 01:36

كشف تقرير صدر حديثًا عن المجلس القومي للإنتاج والشئون الاقتصادية، التابع للمجالس القومية المتخصصة، أن الإنفاق علي الطعام والشراب يستحوذ علي أكثر من نصف ميزانية الأسرة المصرية، بنسبة تصل إلى حوالي 56% من جملة الإنفاق الاستهلاكي للفرد في الحضر، وحوالي 51 % من جملة الإنفاق الاستهلاكي في الريف، وهو ما يوضح أن الزيادة في أسعار الأغذية تنعكس بصورة مباشرة علي رفاهة الفرد والأسرة المصرية ومستوى معيشتها.

وأكد التقرير الصادر تحت عنوان: "سياسات الدعم"، زيادة قيمة دعم السلع الغذائية خلال الفترة الأخيرة نتيجة انخفاض قيمة الجنيه المصري، وإضافة سلع جديدة على بطاقات التموين، مشيرًا إلى أنه ومن خلال عدة استبيانات يتضح أن هناك تسربًا لأكثر من ثلث المبالغ المخصصة للدعم، وخاصة الدقيق المخصص لإنتاج الخبز البلدي بالمخابز.

وأشار التقرير إلى أن التغيير في النمط الاستهلاكي، نتيجة لإطلاق آليات السوق وتحرير الأسعار أدى إلى أن 30% من سكان الحضر وثلاثة أرباع سكان الريف يعانون نقص كمية الغذاء التي يحصلون عليه من تغطية احتياجاتهم الغذائية الصحية.

وقال إن الفرد بالريف أكثر تأثرا بالسلع المدعمة، حيث تمثل الأغذية الموزعة علي بطاقات التموين حوالي 17% فقط من المحتوي الغذائي للفرد، بينما يمثل الخبز البلدي حوالي 11% من الاستهلاك الغذائي، وبسبب اعتماد سكان الريف بشكل أساسي علي هذه السلع ارتفعت نسبة السكان الواقعين تحت خط الفقر لـ 77% في الريف.

ويمثل الخبز حوالي 27% من المحتوي الغذائي للفرد في اليوم، وحوالي 44% من استهلاكه من القمح، ما يؤكد – بحسب التقرير- أهمية دراسة أثر إلغاء الدعم عن هذه السلعة الغذائية الهامة كدراسة حالة على مستوى الفقر في مصر.

فيما لا يمثل دعم البنزين سوى 2% من إجمالي الدعم، بينما بلغ حجم الدعم غير المباشر كفروق أسعار بين السوق المحلي والعالمي حوالي 22 مليار جنيه، أي حوالي 45,5% من إجمالي الدعم.

ويمثل الغاز الطبيعي حوالي 18,5% من إجمالي الدعم الكلي يليه دعم السولار بحوالي 12,5%، ثم دعم البوتوجاز بنحو 10% من إجمالي الدعم، وخلص التقرير إلى أن زيادة أسعار البنزين لن تؤدي إلى وفر يذكر في قيمة إجمالي الدعم.

واشنطن تتدخل لمساندة "وكلائها" المصريين المطالبين بالدستور أولا





كتب عمر القليوبي (المصريون):   |  28-06-2011 01:51

كشفت مصادر رفيعة للمصريون ، أن الوفود الأمريكية التي زارت القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية طلبت خلال لقاءات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شئون البلاد، التدخل لتحجيم حضور الإسلاميين في العملية السياسية الجارية في مصر خلال المرحلة المقبلة، في إشارة تنبئ بالمخاوف الأمريكية خصوصًا من انعكاسات ذلك على مستقبل العلاقة بين القاهرة وواشنطن.

وألمحت إلى أن المطالب بتأجيل الانتخابات البرلمانية ووضع "الدستور أولاً" كانت في صلب المباحثات التي أجراها السياسيون الأمريكيون مع المسئولين في مصر، إذ تبدو وجهة النظر الأمريكية أميل لتأييد تلك الدعوة التي يرى مراقبون أنها محاولة لتحجيم الإسلاميين ومنعهم من الهيمنة على الساحة، وهو ما حدا بالوفود الأمريكية إلى الدعوة بضرورة فتح حوار مع القوي الليبرالية والعلمانية من أجل أن يضطلعوا بدور هام في رسم ملامح العملية السياسية في مصر.

وأكدت المصادر ذاتها وجود رغبة أمريكية لمنع القوى الإسلامية من الهيمنة علي لجنة صياغة الدستور، وضمان صياغة دستور متوازن يراعي وضع الأقليات، على أن يتضمن البند الثاني من الدستور، والذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في مصر، احترامه لعقائد غير المسلمين.

وأفادت المصادر أن السيناتور جون ماكين، المرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية الماضية دعا خلال مباحثاته مع المسئولين المصريين إلى تشكيل حكومة موسعة تضم جميع ألوان الطيف السياسي، مبديًا دعم واشنطن لوجود حكومة توافق وطني قادرة على تعديل مسار الوضع السياسي والاقتصادي في مصر.

وشدد الأمريكيون على ضرورة عدم تراجع الحكومة المصرية التي ستشكل بعد الانتخابات عن الدور الاستراتيجي التي اضطلعت به مصر خلال العقود الماضية؛ والحفاظ على المصالح الأمريكية، وضمان أمن دول الخليج، وتأمين العبور بقناة السويس، وقد تلقوا تطمينات مصرية بهذا الخصوص.

من جانبه، أكد دكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس وعضو مجلس الشعب السابق، أن هناك قلقا أمريكيا متزايدًا من تنامي قوة الإسلاميين على حساب القوى التقليدية في الساحة المصرية.

مع ذلك قال لـ "المصريون" إن واشنطن قد تقبل مشاركة الإسلاميين في الحكومة القادمة وليس الهيمنة علي الوضع السياسي. أضاف واشنطن لن تألو جهدا في القيام بتحركات على عدد من المسارات، وذلك لضمان وجود توازن بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية واليسارية علي حد سواء.
 

27‏/06‏/2011

الوجه الآخر للحملة من أجل تأجيل الانتخابات البرلمانية




تقرير كتبه : أحمد سعد البحيري (المصريون)   |  27-06-2011 01:07

الحملة التي ترفع شعار"الدستور أولا" ليست فقط أحجار يلقيها قوى سياسية ضعيفة شعبيا وتشعر بالخوف من مواجهة الشعب المصري في أول استحقاق انتخابي حر وشفاف في مصر من شأنه أن يفرز خريطة سياسية حقيقية لمصر ، ولكن الحملة في وجهها الآخر والأهم أنها تمثل مجرد ستار ، يصطنعه ـ بالأساس ـ "أباطرة" البيزنس الموروث من عصر مبارك من أجل تأجيل أي استحقاقات سياسية جادة وعملية يمكن أن تفضي لبرلمان حر وحكومة منتخبة ، يملكان قدرة بلا حدود على فتح كل ملفات عصر مبارك ، وخاصة في مجال "البيزنس" الحرام ، ولذلك تستخدم هذه "القطط السمان" كل أدواتها التي تملكها من قنوات فضائية وصحف وإعلاميين وصحفيين ونشطاء محترفين ، من أجل تأجيل ذلك الاستحقاق التاريخي ، الذي من شأنه أن ينتقل بمصر إلى عصر الديمقراطية والشفافية وسيادة القانون ، وباستثناء كتل شبابية محدود تندفع ببراءة وقلة خبرة سياسية ، فإن إدارة هذه المعركة يملك مفاتيحها هؤلاء "الأباطرة" وهي معركة حياة أو موت بالنسبة لهم بعيدا عن الدستور أو أي مطالب سياسية أخرى .



عندما اشتد الجدل حول دور الدكتور يحيى الجمل نائب رئيس مجلس الوزراء ومواقفه المستفزة لقطاع كبير من الشعب المصري ومطالبة قوى كثيرة بإقالته من منصبه ، تحدث الجمل بأنفة وشموخ ووصف نفسه بأنه "وتد" وأن أحدا لا يستطيع إقالته ، وتصور الجميع وقتها أن هذا التصريح من نائب رئيس مجلس الوزراء كان على سبيل العناد والاعتداد الزائد بالنفس ، ولكن الحقيقة أن الجمل كان يعني ما يقول فعليا ، وهو أنه "وتد" في السلطة الجديدة ، وأن مسألة عزله أو إقالته ليست بالأمر الهين ، وهو ما تعزز بكل تأكيد في الأسبوع الماضي عندما عجز رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف عن أن يمضي قراره بقبول استقالة يحيى الجمل من منصبه .

والوتد مصطلح مستوحى من تعبيرات البدو وأهل الريف ويدل على عمق تجذر القطعة الخشبية في الأرض ووصولها إلى أعماق بعيدة نسبيا بحيث يصعب اقتلاعها بل تتحول إلى سند ورابط يربط به غيره بحيث لا يستطيع الفكاك ، وعندما يتحدث يحيى الجمل عن كونه "وتد" فهو لا يعني بطبيعة الحال الأشهر الثلاثة التي تولى فيها ذلك المنصب الغامض ، فتلك الأشهر ولا حتى الأعوام الثلاثة لا تصنع "وتدا سياسيا" ، وإنما يتشكل الوتد على مدار سنوات طويلة من التعمق والتجذر في تربة سياسية واقتصادية وأمنية ، فوتدية يحيى الجمل تمتد إلى عمق نظام مبارك نفسه .

قد لا يعرف كثيرون عن الدكتور يحيى الجمل سوى أنه "خبير قانوني" وفقه دستوري ، لكن قليلين الذين يعرفون أن الجمل هو أحد رجال البيزنس الكبار في مصر ، وأنه يرتبط بشراكة اقتصادية ممتدة عبر أكثر من ستة وعشرين شركة كبرى ، هو الشريك المؤسس فيها ، وأن بعضا من هذه الشركات تربط يحيى الجمل برباط متين مع شخصيات رفيعة ونافذة ، وأن الجمل وأسرته يرتبطون عبر شبكة علاقات اقتصادية معقدة مع أسر أخرى نافذة وكبيرة في مصر .

والدكتور يحيى الجمل الذي يتحدث ـ الآن ـ بسخرية عن العقيد الليبي معمر القذافي ويصفه بأنه مجنون ، بعد أن انحسر دوره وحضوره ونفوذه وسلطته وسقطت شرعيته ودخل في طور الأفول ، الدكتور يحيى الجمل هو الوكيل المؤسس لشركات اقتصادية ضخمة تابعة للاستخبارات الليبية التي يشرف عليها العقيد القذافي وأنجاله ، كما أن الجمل يرتبط بعلاقات مالية وثيقة ، مع أحمد قذاف الدم ، الممثل الشخصي لمن يصفه ـ الآن ـ بالمجنون والمخرف .

وأما الملياردير القبطي المهندس نجيب ساويرس فهو "وتد" آخر من أوتاد عصر مبارك ، والعصر الحالي أيضا ، ونجيب ساويرس له ثمانية ملفات كبيرة في مباحث الأموال العامة ، موقع عليها بالحفظ من أيام النظام السابق ، حيث يحظر على أي جهة تحريك هذه الملفات أو التحقيق فيها ، كما أن معركة ساويرس الحقيقية الآن ليست هي ما يدعيه من قضية "الدستور أولا" ، فتلك مجرد قنبلة دخان يطلقها من أجل إبعاد الأعين عن معركته الحقيقية والأهم التي تدور الآن في أروقة اقتصادية رسمية عديدة ، ساويرس يحاول ـ في تلك اللحظة ـ تمرير صفقة خطيرة بعشرات المليارات متعلقة بتقسيم شركة "أوراسكوم" بدون تقديم أية أوراق مستندية ، أو حسابات دقيقة معتمدة من البنوك داخل مصر وخارجها ، وهو يضغط حاليا على عدة إدارات مالية واقتصادية رسمية من أجل تمرير تلك الصفقة بالمخالفة للقانون ، ولو تمت لأهدرت من قوت الشعب المصري وحقوقه مئات الملايين من الجنيهات .



ويمثل ملاك قنوات الحياة والمحور ودريم وصحف المصري اليوم واليوم السابع والشروق ، وهي التي تقود الحملة من أجل الدستور أولا ، وتقاتل من أجل تأجيل الانتخابات ، يمثلون وجوها مشابهة للهلع الذي ينتاب عددا من "القطط السمان" التي سمنت وتضخمت كروشها من فساد عصر مبارك ، وتمثل الانتخابات البرلمانية الحرة المقبلة كابوسا حقيقيا لها ، ليس فقط لقدرة البرلمان الجديد الرقابية التي ستتيح له فتح كل الملفات القذرة وبدء عملية تطهير الاقتصاد والإدارة المصرية من أوكار الفساد ، وإنما أيضا لأنها ستفزر أول حكومة مصرية منتخبة من الشعب نفسه مباشرة ، وبالتالي حكومة تملك قرارها ، ولا يوجد أي رقيب على قراراتها إلا الشعب نفسه ، وهو ما يمنحها قوة هائلة لإنجاز مشروع الثورة الأساس بتطهير كل خلايا الدولة المصرية ، اقتصادية وأمنيا وقضائيا وسياسيا ، من الخلايا السرطانية الموروثة من عهد مبارك 

22‏/06‏/2011

الجمود الفكري وأثره في المشروع النهضوي الإسلامي / قضايا فكرية



د. عبد السلام الراغب | جامعة حلب، كلية الآداب والشريعة / سوريا.


تاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين تحقق دينها من مادة الحياة. فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة، تشكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم. وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة، والحركة أساس الإسلام وجوهره، وهي حركة التوجه نحو الله في شتى صور الحياة.
    يختلف الناس في النشاط العقلي أو الفكري قوةً وضعفًا وفهمًا ووعيًا وقدرةً واستيعابًا، ويتجلى هذا التفاوت بين الناس في طريقة تعاملهم مع الثقافة أو الواقع، وهي لا تخرج عن ثلاثة مستويات تحدد آلية النشاط الفكري ومساره وثماره.
    المستوى الأول: وأعني به "التلقي المباشر" عن الآخر واستعارة "قالبه" الحضاري في الفكر والسلوك والحضارة، سواء أكان هذا الآخر ماضيًا موروثًا أو حاضرًا مستوردًا أو واقعًا ملموسًا أو نصًّا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًّا... وينحصر دور العقل في هذا المستوى الشائع والعام، في "التلقي" من الآخر والتقيد بما يقوله من ثقافة ومعرفة أو عادات وتقاليد. ويحرص العقل أو الفكر هنا، في التقليد والخضوع لهذا الآخر، وتبنّي ثقافته ومشروعه الحضاري مبرزًا إيجابياته وصوره المشرقة، وتقديم نفسه على أنه صورة طبق الأصل تمامًا عما يطرحه هذا الآخر في ثقافته وفكره وحضارته، والحرص على محاكاته في أقواله وأفعاله ومشاريعه النهضوية. وتتعدى المحاكاة والاستنساخ حدود المعقول في الثقافة والأدب والفن، وطرائق الحياة في المسكن والملبس والمطعم والمشرب.
    فالعقل هنا، يتحرك ضمن إطار الثقافة المقروءة والمرئية والمسموعة لتبنيها والتقيد بما فيها، ليكون "العقل المتلقي" أو الفكر المتلقي، صورة منسوخة عن العقل المنتج لهذه الثقافة بنوعيها العالمة وغير العالمة، الرسمية والاجتماعية على حد سواء، وسواء أكانت هذه الثقافة قديمة أو جديدة، موروثة أو مستوردة. ويلتقي في ذلك دعاة "التغريب" في استنساخ ثقافة الآخر المستوردة، ودعاة المشروع الإسلامي في مستوى التلقي من الثقافة الإسلامية واستنساخ ما فيها، دون وعي للثوابت والمتغيرات فيها. هذا التعامل العقلي في التلقي والنسخ، يفضي إلى التكرار الممجوج والتقليد الأعمى، وتبني الأفكار والآراء دون وعي أو فهم لها، أو دون إدراك للظروف التي أنتجت هذه الأفكار والآراء والمشاريع النهضوية. وبالتالي يغيب العقل وراء الموروث أو المستورد ويحل "الانفعال" محل "العقل"، فتأخذ العاطفة مكان العقل في الترويج لهذا الموروث أو هذا المستورد، ويتم الانفعال والتفاعل مع هذا وذاك في لحظة غياب العقل البصير، فلا ينظر هذا الإنسان المقلّد إلى الثقافة بإطارها الزمني، وأطرها الثابتة والمتحولة، وقربها أو بعدها عن المقاصد الحضارية للأمة، وإنما ينظر إليها من خلال عاطفته المشبوبة ورغبته في محاكاة نموذجه الموروث أو المستورد، فيندفع للدفاع عن أخطائه وسلبياته وكأنه في دفاعه عن تراثه يخوض معركة جهادية بأمل ثوابها عند الله، وغاب عن باله أن هذا التراث الإسلامي هو إنتاج بشري، وأنه ليس نصًّا شرعيًّا لا يجوز أن تخالفه، وكذلك غاب عنه أن الفقه نتاج بشري في قراءة النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام منها. فالشريعة ثابتة ربانية، أما الفقه فهو نتاج بشري متغير بتغير الظروف والأزمان والحالات.
    المستوى الثاني: هو أعلى من الأول وأرقى، لأن العقل فيه يتجاوز مرحلة التلقي المباشر والفهم التداولي العادي للأمور الثقافية والحضارية، إلى الفهم التأويلي المفسر للدلالات والرموز في الحضارة والثقافة والواقع. وهذا يعني أن العقل يقوم بدورٍ فعالٍ في إنتاج الثقافة أو فهم الواقع من خلال إبداء الرأي، وتقديم رأي مفسر أو داعم لدلالات الثقافة أو رموز الواقع. فهو يعمل بنشاط للاستنطاق والاستكشاف في الثقافة والواقع وليس للتقليد والاستنساخ.
    وتتجه حركة العقل هنا إلى مبدع الثقافة، للتعرف على ظروفه الخاصة والعامة المحيطة في إبداعه وإنتاجه الثقافي والحضاري، والطواف في أجوائها ومناخها ومؤثراتها لاستيعابها وفهمها ومعرفتها، من غير رغبة منه في كشف عيوبها وتناقضاتها. وإذا لاح له شيء من العيوب أو القصور حاول ستره وإذابة تناقضاته بالاعتماد على "التأويل" و"التبرير".
    وعانى العقل المعاصر من مشكلات التأويل والتبرير، ومحاولات التوفيق والتلفيق في مشاريعه النهضوية المطروحة والمستوردة، التي أحدثت فجوة كبيرة بين الثقافة الرسمية المستوردة، والثقافة المختزنة في عقول الشعوب المسلمة ووجدانها. وارتاح العقل المعاصر أو أراح نفسه من مشاقّ البحث والتفكير، فاسترخى واستقال مكتفيًا بالقالب المستعار في مشروعاته النهضوية، إما قالب مستورد بعيد عن ثقافته ودينه وحضارته، أو قالب موروث بعيد عن واقعه وظروفه وحاجاته ورغباته. وهذه هي الطامة الكبرى التي أصابت العقل أو الفكر المعاصر.
    المستوى الثالث: هو الفكر التقويمي، وفيه يرتقي العقل من مرحلة التلقي المباشر ومرحلة التأويل الدلالي إلى مرحلة أعلى هي "التقويم". وبذلك يكون العقل قد أكمل دورته في التلقي والتأويل والتقويم إن كانت حركته متدرجة متسلسلة لا تتوقف عند مرحلة وتجمد عليها.
    فهذه المراحل أو المستويات الثلاثة متداخلة ومتكاملة، حتى تتكون الرؤية الصائبة للثقافة المقروءة أو النص المدروس أو الواقع المرصود، فلابد للعقل أو الفكر أن يكمل عمله السابق في المستوى الثالث في تقويمه وتشخيصه وكشف عيوبه وتناقضاته، بعد عملية تفسيره ومعرفة ما فيه من أفكار وظروف.
    هذه المستويات الثلاثة لآلية النشاط الفكري أو العقلي، تصلح معيارًا نقديًّا نحتكم إليه في فهم العقل المعاصر أو الفكر الإسلامي المعاصر، لمعرفة حدود نشاطه، والمستوى الذي يتحرك فيه، وكيفية عمله في كل مستوى من هذه المستويات الثلاثة. وهذا بداية الطريق في تشكيل العقل المسلم على أسس معرفية صحيحة وواضحة، وتخليص الفكر الإسلامي من جموده وتحجره.
    ولا شك في أن "أدلجة المعرفة" أو أُحادية "الفكر"، دفعت بالعقل المعاصر إلى أن يحصر نشاطه في مستوى التلقي المباشر من الآخر، رغبة في إخفاء العيوب وتبرير التناقضات، فأدى ذلك إلى ضياعه وتمزقه وفشل المشاريع النهضوية الحديثة. ولو أن النشاط الفكري أو العقلي كان يتحرك بآلياته وأدواته في مناخ سياسي متعدد، لكان عمله لا ينحصر في المستوى الأول في التلقي المباشر، وإنما تجاوز ذلك إلى شمولية التقويم وجديته في وضع مشروع نهضوي إسلامي.



    أقام الله سبحانه وتعالى نظام الكون والحياة على نظام "الزوجية" المعروف لتبقى الحياة مستمرة متجددة. ولا يخرج أمر الدين أيضًا عن هذه الثنائية في البناء الكوني والإنساني لتأمين بقائه واستمراره؛ إذ نلاحظ فيه تلازم ثنائيةِ "الثبات والتجديد فيه". فالثبات في الدين يرجع إلى مصدره الإلهي الأزلي، ويلازم هذا الثبات، التطورُ والتجديدُ المرتبط بالماديات الكسبية المتفاعلة مع الواقع المتغير. وهذه هي التي يطرأ عليها التطور والتجديد، أو تبقى في جمود وخمود بخلاف الدين الذي يتضمن معنى الثبات والاستقرار. ويغفل الكثيرون عن معنى الثبات في طبيعة الدين، وقد يوصف بالجمود، بينما ظواهر الجمود لا تنطبق على الدين، وإنما على صور التدين ومواقف الناس من الدين.
    وقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون ثنائية بناء الكون والحياة على نظام الزوجية، أداةً من أدوات التغيير والتجديد في الكون والحياة، لاستمرارهما وبقائهما. وثنائية الثبات والتطور في الدين أيضًا من أجل الغاية نفسها، في بقائه حيًّا متجددًا يلبّّي حاجات الإنسان في كل العصور وفق المتغيرات السياسية والاجتماعية والحضارية.
    وصورة التدين تعني التفاعل مع الواقع المتجدد، لإثبات المعنى الديني الأزلي فيه وتحقيق العبودية لله في حركة الإنسان وتوجهاته، فتغدو حركته المتفاعلة مع مجتمعه وعصره على صراط الله المستقيم، أما إذا ظل تديّنه على صورة واحدة لا يرتقي ويتجدد بارتقاء الحياة وتجددها، فإنه سيرى نفسه في النهاية معزولا عن واقعه وعصره، أسيرًا لصورة التدين المخالفة لعصره وواقعه.
    فصورة التدين متغيرة، لأنها تتعامل مع متغيرات الحياة ضمن مفهوم الثبات في طبيعة الدين؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى قد ابتلى الإنسان بالتفاعل مع ظروف الحياة المتغيرة، ليمتحن ثباته في توجهه واتجاهه نحو ربه، كما ابتلاه بالتفاعل مع الكون ليستخلص قوانينه ويفهم أسراره، ولولا هذا التفاعل معه، ما كانت هذه العلوم المتطورة وهذا التسخير الكوني للإنسان. كما امتحن الإنسان بالرخاء والشدة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، ليرى حركته وسلوكه وتصرّفه مع هذه المتغيرات عليه، ومقدار ثباته على طريقه المستقيم.
    والفكر الإسلامي فكر متجدد فيه ثوابت الدين، ومتغيرات "التدين"، فتدور صورة التدين حول محور الدين الثابت في شتى ميادين الحياة.
    من هنا، نلاحظ أن تجدد الحياة وتطورها يكمن في هذه الثنائية الأساسية في الكون والحياة والإنسان. والفكر الإسلامي يخضع أيضًا لهذه الثنائية في الدين الثابت والتدين المتغير، وفق الظروف والأوضاع الكسبية المتغيرة.
    لذا نلاحظ أن "الإيمان" يزيد وينقص، وأن المؤمن مطالب أن يحقق الإيمان حينًا بعد حين، فيظل في نماء وتطور وازدياد في حركة تفاعل مع الظروف والأوضاع. حتى التقوى التي هي ذروة الإيمان، تمر بمراحل متجددة ضمن حركة التفاعل الاجتماعي والشعوري، إذ نلاحظ هذا في قوله تعالى:﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(المائدة:93).
    وقد يقال إن هذه مراتب التقوى ومقاماتها وهذا صحيح، ولكن أليست هذه المراتب تمثل حركة تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي حتى يبلغ هذا المقام في حسه وشعوره وفكره.
    وإذا تأملنا حركة "الدين" في قصص الأنبياء، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى يختار رسوله من بيئته ليحقق هذا المعنى في تفاعل الدين مع المجتمع.
    وهذا يعني أن المبادئ الثابتة -في دعوة الأنبياء- واحدة وإن تغيرت الشرائع أو تجددت وفق الأوضاع المتجددة. وكأن الشرائع تمثل صور الاستجابة للأوضاع المتجددة المعتمدة على دين التوحيد الثابت.
    وإذا رجعنا إلى بعض النصوص النبوية، فإنها تؤكد حقيقة الابتلاء في الحياة من خلال إدراك الناس للعبادة في حالة الرخاء، وإدراكهم لها في حالة الشدة، فتتجدد صورة التدين من "شكر" في حالة الرخاء إلى "صبر" في حالة الشدة.
    والرسول صلى الله عليه وسلم يخبر في حديث له؛ أن خيرَ الإسلام سيعمّ، ثم يوضح أنه لا يدوم إذ يعقبه شر، ثم يؤول إلى خير آخر أدنى من الخير الأول إذ فيه دخن. فهو يؤكد على أطوار الحياة وتقلّباتها وما تستلزمه من موقف في كل طور؛ موقف تجاه الخير، وموقف تجاه الشر. وهو الامتحان الإلهي لعباده في تجدد صورة التدين الملازمة لتقلّبات الحياة.
    بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر مبشرًا أن الله سبحانه وتعالى يقيض للأمة مجددًا لأمر دينها، كلما رآها قد استكانت إلى صورة جامدة من صور التدين في الوجدان والسلوك، كلما داهمتها تحديات جديدة وظلت على سكونها وجمودها، فيهيئ لها المجددَ لأمر دينها، فيحيي وجدانها وينشط فكرها وعقلها في الاجتهاد المتجدد، ويثير فيها روح النهوض بحركة متجددة من صور التدين المواجهة للتحديات.
    وتاريخ الإسلام حافل بحركة دائبة من التدين تحقق دينها من مادة الحياة. فإذا توقفت حركة المسلمين المتجددة واستكانت إلى صورة ثابتة، تشكل تاريخهم بعيدًا عن دينهم. وهذا يعني أن التجديد صفة ملازمة للحركة، والحركة أساس الإسلام وجوهره، وهي حركة التوجه نحو الله سبحانه وتعالى في شتى صور الحياة.



    1-إحياء المفاهيم الإسلامية: لابد من إحياء المفاهيم الأصلية وبعث الحياة في معاني التدين، حتى يكون الدين حركة تفاعل اجتماعي وحضاري للرقي بالإنسان نحو الخير والتقدم، وربطه بالحياة والسلوك، وإحياء حقائقه ومضامينه لا صوره وأشكاله. وسوف تقف صور"التقليد" أمام حركات التجديد والتطوير، ولكن الدين بعيد عن مظاهر الجمود والتقليد، إذ إن كلمة "الإسلام" المصدرية توحي بالتجدد المستمر، لأن المرء حين أسلم ويسلم فهو في حركة متفاعلة متجددة مع أوضاع الحياة. فهو إذن، في حالة تجدد وحيوية وعطاء، وليس في حالة سكونية جامدة طالما أن حركته ضمن ثوابت الدين وأحكامه. من هنا نلاحظ الآيات تركز على الفعل: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:112)، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾(لقمان:22). لأن حركة التفاعل هي الأصل حتى يبلغ الإنسان ذروة الدين، وهذا ما نلاحظه في نصوص الدين كلها، وأحكامه التي تنقله من طور الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان. ومرتبة الإحسان متجددة بتجدد الشعور والسلوك والأداء، بل إن القرآن الكريم يجعل التجدد شرطًا للنهضة والنجاح بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:9-10).
    -2اعتماد المعرفة الإسلامية: في مصادر المعرفة لا يفترق الوحي عن العقل ولا يتصادم معه، لأنهما يرجعان إلى مصدر واحد، ومحال أن نتصور التعارض بينهما وهما يصدران من مشكاة واحدة. إذ الوحي في رسالته الأولى، كان دعوة إلى التفكير والثقافة والعلم وتفجير الطاقات الإنسانية الكامنة في تسخير الكون للإنسان، فهو دعوة حضارية للارتقاء والنهوض من خلال كلمته الأولى: ﴿اقْرَأْ﴾، وملازمة العبادة لكل الأشياء المقروءة وصولا إلى غايتها في العبودية لله سبحانه وتعالى. وبذلك تتحدد حركة الإنسان بحركة الكون والحياة، فتكون قراءته الكونية والحياتية متجهة في صورة العبودية لله الواحد. وقد جاء الوحي من أجل تقدّم الإنسان وحضارته وتعليمه ما لم يعلم، كما ورد في الآيات الخمس الأولى النازلة من السماء: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(العلق:1-5).
    فكأن هذه الرسالة الحضارية للوحي، تنسجم مع دور الإنسان ووظيفته حين اختاره الله خليفة له ومستخلفًا على كونه، لتسخيره وتعميره، ومن خلال حركة التفاعل معه لكسب مادته واستخلاص قوانينه، ووضع مادته المسخرة أداة أو وسيلة لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتحقيق تدين الإنسان من خلال موقفه من الكون وحادثات الحياة المتجددة، التي تتطلب تجديدًا أو تطويرًا يلازم حركة الدين المتفاعلة مع الحياة.
    والعقبة الأساسية أمام هذه الحركة الجديدة للوحي هي "ظاهرة الجمود الفكري". من هنا كان هذا التركيز القرآني على إذابة الجمود الفكري والتحجر العقلي له أولوية في الخطاب القرآني، وهذه من مدلولات كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ الأولى التي تهدف إلى إذابة الجمود بفعل القراءة المستمرة في الكون والحياة والإنسان، وهي قراءة شاملة متكاملة ومتفاعلة، لتؤتي ثمارها وفوائدها في فتح الآفاق الكونية، والآفاق العقلية، والآفاق الفكرية والروحية.
    ومن متطلبات هذه القراءة الواعية الشاملة، تفتُّح الحواس وفاعليتها لتؤدي وظيفتها الحقّة، وإلا فإن تعطيلها يفضي بانتقال الإنسان من آدميته إلى صورة أخرى مشينة يفقد فيها خصوصيته وتميزه. ومن أين للخطاب الديني أن يحقق غايته في البلاغ والنهوض بالفرد والأمة، في مجتمع موسوم بالجمود الفكري كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(الأعراف:179).
    فالآيات تؤكد أن تعطيل "الحواس" يعني تعطيل "مصادر المعرفة" التي هي وسيلة النهوض والوثوب والتجدد المستمر مع أوضاع الحياة والظروف، بل إن الآية تعتبر هؤلاء المعطلين لحواسهم المدركة قد اعترتهم الغفلة عن الحقيقة، فلا يمكن للمرء أن يصل إليها إلا من خلال إعمالها من خلال حركة التفاعل مع الكون المحيط، لاستخلاص حقائقه وقوانينه.
    هذه "الحركة النصية" في استقبال الحواس للمؤثرات، وإدراكها وتحليلها واستيعابها واتخاذ المواقف المناسبة من الكون والحياة، لا تتم إلا بحركية مقابلة في سلوك الإنسان وتفاعله مع محيطه، حتى لا يكون من الغافلين عن كونه أو خلقه أو عبادته، وهذه نقطة البداية في معالجة "الجمود الفكري".
    فإن القرآن الكريم في دعوته إلى التفكير والعقل، حث الإنسان المخاطَب على الاتصال بالكون المحيط به، وكأنه يدعوه إلى الأخذ بمصدري المعرفة الحسي والعقلي بالإضافة إلى الوحي الذي يتكامل معهما ولا يتناقض. وهذه الدعوة إلى الاتصال بالكون لاستكشاف حقائقه التي هي حقائق العلم وقوانينه، هي دعوة مستمرة ومتجددة، لينتقل الإنسان من طور علمي إلى طور عملي وفق حركة تفاعله وقدراته الكسبية، التي تمكّنه من امتلاك المعرفة التي هي حركة متجددة وليست سكونية ثابتة. وملتقى الوحي والحس هو "العقل"، إذ لا يمكن أن يدرَك الوحي إلا بالعقل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(الزخرف:3). والحس أيضًا لا يدرَك إلا بالعقل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(البقرة:164).
    وبذلك تتكامل مصادر المعرفة في الثقافة الإسلامية، وأعني بذلك الوحي والحواس والعقل. فيكون الوحي مكمّلا لمصدري المعرفة الحسي والعقلي، وبذلك يضع القرآن الأمة على طريق النهضة العلمية، لتأخذ حظها من التقدّم والحضارة والرفاهية وسعادة الإنسان، متطلعة إلى إحياء فكري نهضوي، يستفيد من توجيهات الوحي نحو العلم والعقلانية والتفكير، كما يستفيد من الكون المحيط في حركته، لأنه مجال التسخير والتمكين.
    ولابد أن أشير إلى أن هذه النهضة المطلوبة ليست ترفًا، وإنما هي ضرورة لازمة لتحقيق عبادة الله في صور الحياة كلها، فلا تقتصر صورة التدين على جانب منها، وإنما تشملها كلها. وهذه الشمولية التعبدية لا تتحقق إلا من خلال التفاعل مع الواقع للنهوض به. ولكن النهضة المنشودة، لها قوانينها وأصولها، وهي لا تحابي أحدًا لعقيدته أو لدينه، فكل من قام بأصولها أو قوانينها فإنه يصل إلى ثمارها ونتائجها ولو كان غير مسلم.
    -3بناء مجتمع صناعي: علينا أن نميز في مشروع النهضة بين نهضة فكرية ونهضة صناعية. فالفكر له قوانينه الخاصة به في التطور والتجديد عبر العصور والأجيال وفق قانون المدافعة التاريخي: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(الرعد:17). أما النهضة الصناعية فهي محكومة بأطرها المادية ضمن القدرات والإمكانيات والخطط. فمشكلتنا في المشروع النهضوي الإسلامي، أننا نخلط بين ما هو فكري وما هو صناعي مادي.
    إن إقامة مجتمع صناعي، يحتاج إلى إرادة سياسية قوية وعقل مخطط متفتح رشيد، وإمكانات مادية وبشرية، وقيم وطنية عالية تضع الوطن والأمة والتاريخ في مقدمة حركتها الواعية وفق مراحل البناء الصناعي من استعداد حضاري، ثم استيعاب لكل المنجزات الحضارية القائمة، ثم مرحلة صيانتها ثم محاكاتها وتقليدها، ثم الإبداع والتجديد فيها.
    ونخلص إلى مقوّمات المشروع النهضوي الإسلامي وأعمدته الأساسية في الأصالة والمعاصرة والديموقراطية والتكنولوجيا. وهذه العناصر تقوم على فكر متنوع، متفتح وحياة متجددة متطورة ضمن الثوابت والمتغيرات

    الثقافة السننية وصناعة المستقبل / قضايا فكرية



    أ.د. عمار جيدل | كلية العلوم الإسلامية، جامعة الجزائر / الجزائر


    عرّفنا القرآن الكريم سنن الصعود، ليسلكها العقلاء في صناعة الحاضر والتفكير الجيّد في صناعة المستقبل، كما عرّفنا في الوقت نفسه سنن النكوص والتخلّف والتقهقر تنبيها للبشر قاطبة على ضرورة تلافيها، فهل تقتصر وظيفة السنن الإلهية؟ أم أنها تتجاوز ما ألمحنا إليه؟
      كثيرًا ما كنتُ أمثّل في المؤتمرات الدولية في الخارج على فقد الثقافة السننية، بقصة الرجل الذي سئل في امتحان عن عاصمة العراق، فكانت إجابته عمّان، وعندما استفسر بعد الخروج من الامتحان، ذُكر له بأن عاصمة العراق هي بغداد، فتوجّه إلى الله داعيًا بقوله: "اللهم اجعل عمّان عاصمة العراق". فهل يمكن أن تتحوّل عمّان عاصمة للعراق؟ وهو بدوره لا يختلف عن رجل يسكن الطابق الثالث في عمارة، وصعد مصعد عمارته بقصد زيارة صديقه في الطابق السابع، ولما صعد، ضغط على زر الطابق الأول، فأدرك خطأه بعد الضغط على الزر مباشرة، ثم بدأ بالدعاء قائلاً: اللهم اجعل هذا المصعد يصعد عوض أن ينزل. فهل يمكن أن يتحقق له مقصوده بهذا الدعاء مهما كان مخلصًا؟
      والمثالان السابقان لا يختلفان عن قصص كثيرة لها دلالة عميقة على فقد الثقافة السننية، تتضمن في مجملها تحصيل النتائج من غير مقدمات صحيحة فضلاً عن فقد المنهج الصحيح في النظر للمسائل. ومجموع المشاهد المستلة من واقعنا المعيش، تؤكد فقد الثقافة السننية، وتتمحور في مجملها حول فكرة مركزية مفادها روم تحصيل نهضة سياسية بغير ساسة أكفاء نزهاء، أو تمني نهضة علمية بغير علماء شرفاء نزهاء، أو الرغبة في إصلاح الوضع بجميع مكوّناته بفاسدين فكرًا ومنهجًا وخُلقًا...
      الأمثلة السابقة عيّنات دالة بنفسها على فقد التفكير السنني، وحياتنا اليومية -العلمية والسياسية والتعليمية والتربوية والدينية والفلاحية والرياضية- طافحة بالتصرفات الدالة على فقد الثقافة السننية. لهذا تُعد الكتابة عن الثقافة السننية ضرورة ملحّة في اللحظة الراهنة، وذلك لما تقتضيه أسئلة الواقع وسُبل التفكير في الإجابة عنها. فقد بدت الغالبية العظمى من النخب المثقفة فاقدة للنظر المنهجي لمسائلنا، مما أثر على سيرها التحليلي وفهم المجتمع على ما هو عليه في شعاب الحياة. وقد كان لهذا النظر السقيم أثر وخيم على موقف غالبية مكونات المجتمع من المسائل نفسها، وهو موقف موضوعي تمليه الصلة السننية بين القيادات الفكرية والدينية وسائر مكوّنات المجتمع، ذلك أن لتلك النخب دورًا كبيرًا في توضيح سبل التفكير في المشاكل ومسالك حلّها، فضلاً عن كونه دُربة نوعية على التفكير المنهجي في مسائلنا.
      إذا كان توضيح النخب غامضًا أو مُبهمًا أو ملبّسًا، فما ننتظر من متلقي تلك التوجيهات أو التحليلات أو الحلول المقترحة؟ معلوم أن نباهة التلميذ في الغالب الأعم -الاستثناء يؤكّد القاعدة العامة ولا يبطلها- من نباهة أستاذه، لا يتصور وفق التفكير الموضوعي أن ننتظر حلاًّ من هذا النوع من النخب، أو هذا النمط من المتلقين؛ فكيف ننتظر حلاًّ لمشاكلنا من عامة الناس؟
      قد يرى بعض القرّاء أن المقال يبعث على اليأس، والواقع أننا رُمنا تجاوز ثقافة اليأس أو التيئيس من الحل، ولكن بطريقة سننية تتجلى في السير المنهجي والموضوعي، فما السبيل إلى بعث هذه المسالك في المجتمع؟
      الطريق للخلوص إلى هذا المقصد التأسيس لثقافة سننية، تتجاوز العبثية والفوضوية والارتجال، وتتطلّب مؤهلات معرفية وأخلاقية رئيسة لا يتصوَّر الخلوص إلى المطلوب بإهمالها.
      الثقافة في سياق هذا المقال (الثقافة السننية) سمات معرفية وأخلاقية يعرّف بها المجتمع من قِبَل نخب متحقّقة بها (الثقافة السننية) في عقولها وقلوبها، وتترجمها مواقف إيجابية في شعاب الحياة، ثم تسعى سعيًا مستمرًّا إلى تحويلها إلى صبغة يتحلى بها المجتمع بمختلف طبقاته وفي مختلف مجالات الحياة التربوية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والرياضية...
      صبغ المجتمع بهذه السمات لا ينال بالخُطب التي تردد هنا أو هناك، كما أنه ليس قرارًا إداريًّا تُلزم به السلطة المجتمع، وفي الوقت نفسه لا ينشئه الارتجال أو التمنيات الفارغة أو التمويه أو التهريج المهرجاني... وكل محاولة لبعث هذه الثقافة بمثل هذه الوسائل أو ما كان في حكمها، ليس إلا رغبة صريحة في نيل الحقائق بطريق الأوهام، وهل في البشر الأسوياء من يطمح في نيل الحقائق بالأوهام.
      الثقافة السننية إن تحوّلت إلى صبغة عامة للمجتمع، تحوّلت به عن مسالك انتظار النتائج بدون مقدّمات أو انتظار حصاد من غير زرع أو بناء، من غير بذل أو نجاح، من غير تأهّل لنيل أسبابه... كما تكسب الثقافة السننية المجتمع فعالية التجدد الذاتي بالتجديد المستمر لكفاءاته الفكرية، فيذهب الرديء وفق سنن النكوص ويحلّ محلّه الجيد وفق سنن الصعود، والخلوص إلى المقصود صناعة مضبوطة وفق خطة واضحة ليس فيها للارتجال حضور، وليس فيها للرداءة والسفالة والصفاقة أن تفكّر في المشاركة فضلاً عن المشاركة بالفعل، وهو بصيغة صريحة الصناعة خطة إرادية يضعها المجتمع من خلال قواه الحية، تلك القوى المعبّرة عن آماله وآلامه، ويفرض نجاح الخطة أن يتصدّر تنفيذها العارفون بها، المتحققون بمعانيها، المصطبغون بها، تفكيرًا وتدبيرًا وموقفًا في شعاب الحياة. وفضلاً عن ذلك هم بحاجة إلى صبر ووقت وتعاون الجميع، وفحص مستمر للمكاسب بغرض تحسين الأداء.



      الحديث عن الثقافة السننية، حديث عن القوانين التي تحكم سير الإنسان والكون بشقيه المادي والمعنوي. وثبات القوانين دعوة إلى اكتشافها ثم الإفادة منها في مختلف مجالات الحياة، وهو عين ما يرمي القرآن الكريم إلى تربية المجتمع عليه. لهذا يعدّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة من أهمّ مصادر التعريف بسنن الله في الخلق، وهو منهج وظيفي يخلص إلى بيان المراد من تلك السنن، من خلال التأكيد على خلودها وثباتها في رحلة البشر في الكون، وهي تستوعب عوالم الإنسان والعوامل المحيطة بها، خدمة وتسخيرًا. من هنا كان القرآن الكريم مصدرًا مهمًّا في فهم تاريخ البشر وأفكارهم وتصرفاتهم الفردية والاجتماعية، فكان ما جاد به القرآن الكريم بمثابة درس مستمر دائم الحضور في الظواهر التاريخية البشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
      وقد أيّد استقراء التاريخ البشري تلك السنن، وجاء الفكر البشري القويم مؤيّدًا لها، وشاهدًا إضافيًّا على صدقها وصحتها المتأتية من كونها وحيًا يوحى، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:3-4)، من هنا كان النص القرآني مؤسسا للسنن يعضّده الواقع البشري.
      عرّفنا القرآن الكريم سنن الصعود، ليسلكها العقلاء في صناعة الحاضر والتفكير الجيّد في صناعة المستقبل، كما عرّفنا في الوقت نفسه سنن النكوص والتخلّف والتقهقر تنبيها للبشر قاطبة على ضرورة تلافيها، فهل تقتصر وظيفة السنن الإلهية على ما سبقت الإشارة إليه؟ أم إنها تتجاوز ما ألمحنا إليه؟



      الخلوص إلى الاستفادة من السنن في وظيفتها الحضارية، بصناعة حضارة متعبّدة لله بالفعل وهي المقصد النهائي للسنن، يسترعي التوقف عند الوظائف المرحلية والجزئية للسنن في حياة البشر قاطبة، لأنها تُعد من المعابر الضرورية إلى المقصد النهائي (صناعة الحضارة المتعبّدة).
        نؤكد من البداية أن دراسة السنن ليست من قبيل المعارف التي تحشى بها الرؤوس ويُتباهى بها في المجالس، لأنها إن قُصِرَت عليها، لم تكن غير نوع عبث "متديّن" منظّم، مضيّع للأوقات وصارف للطاقات في غير أبوابها.
        الخلوص إلى الاستفادة من السنن في وظيفتها الحضارية، بصناعة حضارة متعبّدة لله بالفعل -وهي المقصد النهائي للسنن- يسترعي التوقف عند الوظائف المرحلية والجزئية للسنن في حياة البشر قاطبة، لأنها تُعد من المعابر الضرورية إلى المقصد النهائي (صناعة الحضارة المتعبّدة)، وإذا كانت الحضارة التي أرادها ديننا لا تقوم إلا على مجموعة من الوظائف الفرعية للسنن من نحو الوظائف؛ الإيمانية والنفسية والمنهجية والمعرفية والاجتماعية ...إلخ، تفرض الوظيفة الحضارية التوقف عند مجموع المحطات المشار إليها أعلاه.
        يربينا القرآن الكريم على أن السنن قوانين ثابتة، ولثباتها تسترعي الاكتشاف، والسعيُ إلى اكتشافها جُهد معرفي بامتياز، ثم السعي إلى فهم السنن فضلاً عن تجسيدها بالنسج على منوالها في قوانين الصعود، والميل عنها في قوانين النكوص، صناعة معرفية تتجاوز ثقافة السبهْلَلَة -على البركة بمعناه السلبي- الذي يتجلى في إهمال قوانين سير المَرْكَبات الحضارية، ولا يختلف إهمال قوانين سير الحضارات نشأة واكتمالا وديمومة ونتائج عن إهمال قوانين سير المركبات العادية (السيارات)، وإذا كان الإهمال الثاني سببًا في ضحايا الطرقات وتضييع الطاقات المادية والمعنوية، فإن لإهمال الأول نتائج وخيمة على حاضر الأمة ومستقبلها، بل يُعَد إهمال الثقافة السننية في شعاب الحياة، أشنع وأفظع من أثر حوادث السير العادي على الأرواح والممتلكات.



        من منطلق ما سبق بيانه، سنعرض المراد في المصطلح المركزي في المقال "السنن". السنن جمع سنّة، وهي الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة، وترد أيضًا بمعنى العادة، والتي تتضمّن أن يفعل الذي نُسِبت إليه السُنة في الثاني ما فعله في الأول، ولثباتها المشار إليه في التعريف أمر الله تعالى بأخذ العِبرة من السنن السابقة، ذلك أنّ السنة تعني وقائع سنّها الله في الأمم أو الكون، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق؛ فهي تمثّل قانونه الذي يسير وفقه الكون، بصرف النظر عن الحُسن والقُبح المترتب عليها أو عدمه. فتشمل سنن الله بيان سنن صعود الحضارات ونكوصها، سواء تعلّق الأمر بالأوضاع العادية (السنن الجارية في العادة) أو الأوضاع غير العادية (خارقة للعادة) مثل (المعجزات)؛ فالأولى تمثّل القانون العام الذي يسير عليه الكون وفق تقدير مُنَظّمه، والثانية تمثّل سنّة الله في تأييد أنبيائه، وهي بهذه السمة عادة سائرة جار بها العمل وفق قانون الله في خلقه. عبّر القرآن الكريم عن تلك الحقيقة بأساليب مختلفة تدلّ بمجموعها على عادة الله الجارية في الخلق.
        تنسب سنن إلى الله عز وجل مباشرة الخالقِ المدبّر، يشهد لهذا الاستعمال تعبير القرآن الكريم عنها بسنّة الله، من نحو قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾(الأحزاب:62)، والمعنى كما ذكر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: "لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا"، وقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾(فاطر:43)، وقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾(غافر:85).
        نسبة السنّة إلى الأنبياء، رغم كونها قانون الله في الخلق، يشهد لهذا الاستعمال قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ﴾(الإسراء:77)، ولا شك أنها تذكير بقانون الله في الخلق لمن يعرفها، وتعليم لمن جهلها.
        نسبة السنّة إلى المباشرين لها، وإن كانت السنن نفسها من خلق الله تعالى، منها قوله تعالى: ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾(الأنفال:38)، وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾(الحجر:13).. وأقوال المفسّرين تقتبس من القرآن معانيها الجلية. وفي هذا المقام يذكر العلامة جمال الدين القاسمي في تفسير قوله تعالى في سورة الأحزاب الآية (62) بـ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾(الأحزاب:62)فيقول: "أي لأنه لا يُبَدلها، أو لا يَقدر أحدٌ أن يُبدلها".
        وتدل مجموع استعمالات مصطلح "السنن" على حقيقة واحدة، يجمعها الانضباط المعرفي والمنهجي، المفضي إلى تاسيس حقيقة المعرفة الثابتة بالسنن في القرآن الكريم، تفيد المتلقي في هيكلة فكره وتفكيره، كما تفيده في التحضير المنهجي لاستثمار تلك الحقائق في شعاب الحياة، وخاصة في ظل معرفة مستفادة من الوحي يؤيدها التاريخ البشري.
        وما دام القرآن الكريم هو كتاب الله المقروء، والكون هو كتاب الله المنظور، فلا تناقض بينهما. فكان الثاني بشواهده الواقعية المعاينة المتكررة، شاهدًا إضافيًّا على صحة ما جاء به التنزيل، وكان النظر في سنن الله المبثوثة فيه (الكون كتاب الله المنظور) وفق أمر الله تعالى الوارد في التنزيل مؤكدًا لصحة السنن المبثوثة في الكتاب المسطور (الوحي). من هذا المنطلق كانت السنن المبثوثة في التنزيل قواعدَ عامة يحتكم إليها في تحليل الحاضر والتخطيط للمستقبل، وقد وضع القرآن الكريم خطة موضوعية ميسّرة لجميع الخلق، تأسيسًا للسنن في عقول وقلوب الخلق، فهمًا للماضي وتأسيسا للمستقبل. يشهد لهذا أن الله أمر بالسَير في الأرض، مع أن مطالعة الكتب قد تفيد شيئًا من هذه المعاني. والسَير أهم وأوضح في الدلالة على المراد من مطالعة الكتب على ما فيها من أهمية، ذلك أن السير يفيد البشر على تفاوت مستويات تحصيلهم، فتفيد المشاهدة مَن لم يقرأ علمًا أو تاريخًا، وتقوّي علم مَن قرأ التاريخ أو قُص عليه، بينما مطالعة الكتب لا تفيد إلا طبقة مخصوصة، والواقع المعاين شاهد على صحة تلك المعاني، وبمقدور كل الناس استيعاب ما يفيدهم في تقرير ثبات السنن.
        مثلا، هل في البشر الأسوياء مَن شهد في تاريخ البشرية أن الظلم بكلّ تجلياته "المعرفية، السياسية، التربوية، الثقافية، الحضارية، الاجتماعية، الاقتصادية".. طويل العُمر مفضٍ إلى تفعيل دور المجتمع المظلوم؟ فالظلم المعرفي واضح النتائج، بيّن الأثر في الحاضر والمستقبل، والظلم السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي واضح النتائج أيضًا، ذلك أن الظلم لا يتجزأ، فحيثما وُجد الظلم وُجدت نتائجه ضرورة، هذا قانون الله في الخلق ولن تجد له تبديلا، والتعمية عن نتائجه فتلوينها أو تلوين المقدمات (الظلم) بخلع صفة العدل عليها، لن يمنع ظهور نتائجه الوخيمة على الحاضر والمستقبل العاجل والآجل (الآخرة)، المتمثلة أساسًا في الكراهية والرغبة الجامحة في زوال ملك الظالم، هذا إن لم يفض طول عمره إلى اليأس الذي هو أخطر الأمراض المعنوية، ذلك أنه يدفع اليائس إلى الإهمال وفقد الحمية الدينية والوطنية، بل وفَقد الروح المعنوية. أليس في كل ما سبق عند التحقق به، صناعة معرفية واضحة جلية يستفاد منها في فهم الحاضر وصناعة المستقبل، من خلال الاعتبار بدروس الماضي القريب والبعيد، فالثقافة السننية صناعة معرفية.
        ولكن فاعلية السير، ترجع في العُمق إلى الأساس الإيماني للأمر بالسير: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾(النمل:69)؛ وينفع الأساس الإيماني في الانضباط في السير في الكون، كما يفيد ضبط السير بالمقصد منه، ومراعاة مقصد السير -أثناء السير نفسه- يفيد صاحبه تجربة ودُربَة على الفهم فيما عاينه، فلاحظ أن فاعلية السير ترجع إلى الأساس الإيماني للسير بغرض اكتشاف سنن الله في الخلق، والعمل على منوالها بعثًا للخير ودرءًا للشر