24‏/05‏/2011

في الحاجة إلى المثقف الملتزم



آخر تحديث:السبت ,21/05/2011
عثمان حسن
1/1
ربما يعيد الحديث الذي بدأ ينتشر بقوة في أوساط النخب الفكرية والثقافية في الوطن العربي جراء التغيرات التي صاحبت حركة الاحتجاجات العربية في أكثر من قطر عربي، تعريفنا لمفهوم المثقف، ذلك أن ما حدث لا يبدو مفاجئاً فقط، بل هو صادم كونه وضعنا أمام حقائق فرضت نفسها في ساحة الواقع بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن جهة أخرى أصاب حساسية النقد الذي تماهى في التنظير على حساب استشراف المستقبل، ففشل هو الآخر في ردم الهوة بين المثقف وبيئته أو واقعه المرتبط جذرياً بهموم الناس وتوجساتهم وأحلامهم .

مثل هذه التغيرات ضربت في صميم الحالة الشعورية للمثقف فبدا مضطرباً غير قادر على اتخاذ موقف صريح مما يجري، وفي أحسن الأحوال تحسس رأسه وبدأ يفتش عن دوره المفقود طوال عقود طويلة، فهو من جهة تماهى في نظريات الحداثة وما بعدها، فلا هو أصبح حداثياً، ولا مكنته أصول التراث ودعاوى الحفاظ على الأصالة من تحديد بوصلة خبرته الثقافية التي ارتهنت “في أحسن الأحوال” لجملة من المحبطات على شاكلة المشاريع والتوجهات السياسية القطرية الأحادية التي عانت هي الأخرى تحديد سقف انتماءاتها الفكرية والثقافية في محيط الثقافة الإنسانية بمفهومها الاجتماعي والأنثروبولوجي الواسع .

وعودة إلى مفهوم المثقف نتذكر أنطونيو غرامشي المثقف السياسي الذي ينسب إليه حديثه المتكرر عن “المثقف العضوي” ودوره في التغيير، وميزة عرامشي رغم من كونه ماركسياً، الا أنه اختط طريقاً مغايراً في تحليله لدور المثقف ابتعد فيه عن التنظير الإيديولوجي وخيال الماركسيين الحاد في التنظير نحو فهم اجتماعي خاص وأرحب، ذلك أنه قرأ بوضوح مضامين الواقع، ولعلنا بحديثنا عن غرامشي نتذكر الآن مخاطر الهيمنة الثقافية وقسوتها التي تتجاوز مخاطر الهيمنة الاقتصادية والعولمة وشيوع ثقافة الاحتكار والرأسمالية الجديدة بكل أشكال مصادرتها للوعي الإنساني، عدا عن تمظهرها في أشكال كثيرة لعل أهمها ما يتعلق بكونها ثقافة أحادية لا تقبل المحاورة ولا النقاش .

هل يشير ذلك إلى أن ثقافتنا العربية قد عانت آثار هذه الاحتكارية الفجة، فلم تعد قادرة على استغلال فرص مرجعياتها الإيجابية وقراءة الواقع بمنظور تحليلي استشرافي يجنبها آثار صدمة التغييرات الراهنة؟ أغلب الظن أن الإجابة هي نعم، وإلا ما معنى انقضاء قرابة أربعة أو خمسة عقود من راهن الثقافة العربية المعاصرة، وثبوت فشل هذه الثقافة ونأيها عن المجتمع، الذي بات خلال شهور قليلة يبشر بفضاء يمتلك فيه الناس زمام أمورهم، فيغيرون واقعهم بأيديهم، فيسبقون المثقف الذي بات مطالباً حسب المحللين بتحسين صورته التي تشوهت، فأصبحنا جميعاً مطالبين في الوقت نفسه بتحديد فهمنا للمثقف، في ضوء مؤشرات ما سيشهده العالم العربي من تطورات .

ما يمكن الالتفات له في واقع التطورات العربية الجديدة، هو تسارعها على نحو أثار الريبة في عقول كثير من المثقفين الذين انقسموا إلى ثلاثة أقسام الأول يتعاطى معها باعتبارها نتاجاً لحالة الاحتقان الذي أصاب الإنسان العادي الذي فجر غضبه في صورة رافضة انتهت إلى ما انتهت إليه في مصر وتونس وغيرهما، أما الثاني فوقف متفرجاً وفي أحسن الأحوال متشككاً في النتائج، أما الثالث فقد وقف ضد هذه الاحتجاجات ووصفها بأبشع الأوصاف .

لقد دعا مثقفون إلى ضرورة دراسة الحدود الفاصلة بين الحرية والإكراه، والمساواة والتفرقة وأن الثقافة بلا سياسة ضرب من ضروب الخيال، وأن السياسة بلا ثقافة ليست أكثر من ممارسة عمياء .

أضحت مهمة المثقف عسيرة، ذلك أن إرث السنوات الماضية الذي غيبت فيه قيم الثقافة الحقة كما غيبت قيم الديموقراطية والعدالة، لم تمنح بعض المثقفين فرصة قراءة الواقع كما ينبغي، لا بل إن هؤلاء نسوا في غمرة انشغالاتهم الذاتية الدور المطلوب منهم إمعاناً في تحييد الثقافة وتواطؤاً مع السائد إثر انحسار المد الثقافي العربي وسيادة نمط واحد من النظم السياسية العربية التي حكمت بعد الحرب العالمية الثانية .

ولعل الميزة الاستثنائية لحركة الاحتجاجات العربية هو عملها على ردم الفجوة بين مفهوم الأمل وما يجري في الواقع، ولعل هذا يعيدنا مرة أخرى إلى مشروع المثقف العضوي، وأن هناك مشكلة جوهرية وأساسية لدى المثقفين كما يؤكد الدكتور سيار جميل، الذي يعيد الاعتبار لغرامشي بوصفه كان يرى “أن كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، وهي وظيفة لا يمتلكها إلا أصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس” . لا بل إنه يتقاطع مع ما وصلت إليه الثقافة العربية اليوم وكأنه يتقاطع بكل تأكيد مع ما سبق أن أشار إليه “ريجيس دوبريه” الذي تساءل يوماً: ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟

من هنا يمكن فهم رد فعل بعض النخب الثقافية الذين وقفوا في المنطقة الرمادية إزاء تعليقهم على الأحداث، كما يمكن فهم رأي الغالبية التي تؤمن بضرورة وجود ثقافة حرة غير متحيزة لأي نظام سياسي، لا بل إنهم نادوا بضرورة وجود نظام اجتماعي قضائي عادل، وأن الثقافة الحرة والنظام العادل كفيلان بولادة ثقافة جديدة غير مقيدة بأي اشتراطات سياسية أو فئوية أو مجتمعية مصلحية مهما كان نوعها . ولكن، ماذا عن أنماط التفكير السائدة، أليس من المبكر الإفراط في التفاؤل في ظل غلبة التوجهات الفردية والأنانية، لمصلحة تبني قرارات وطموحات بعيدة المدى؟

تجمع كثير من النخب المثقفة على أن المرحلة المقبلة ستشهد الكثير من المراجعات السياسية والثقافية، وأن من يقود هذه المراجعات هم الشريحة الغالبة من الجماهير، الذين غيبوا لسنوات طوال، فهم من يعيشون هموم عصرهم، وهم من سيفتقون الأذهان نحو الإبداع السياسي والاجتماعي، وهم من سيسهمون في تطوير آليات الفكر النقدي، ومن سيمهدون الطريق نحو تغيير جذري وبنيوي في الأنظمة، وربما يمهدون الطريق أمام الأكاديمي والمفكر والمثقف، لكي لا يظل هذا المثقف محجوزاً في برجه العاجي، فينطبق عليه وصف غرامشي “المثقف التقليدي” بل يغدو مثقفاً عضوياً يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته، ويتحسس آلام شعبه، ليستحق لقب “المثقف” حتى وإن لم يكن يحمل أرقى الشهادات الجامعية .

يرى الباحث عادل بلعمري أن استدعاء علامات فكرية مضيئة مثل سارتر، بورديو، غرامشي هو استدعاء لا ينخرط ضمن الرغبة في استنساخ ما أكدته هذه العلامات، كما لا ينخرط بصيغة أوضح ضمن الانشداد الأعمى والتكرار “الببغاوي” لمقولات وأحكام هذه العلامات في حق المثقفين، إنه استدعاء ينخرط ضمن تجديد الدعوة بضرورة استمرار الاعتقاد في دور المثقف (لا رسالته الخالدة)، والتفكير في وسائل عمله المعرفي، التنويري، النقدي، وتجديد مهمته في الالتزام . ويؤكد أنه لا يمكن إنكار البعد النقدي لكتابات عربية نقدية تجاه المثقف العربي، إلا أنه تقييم يلقي “بالرضيع مع ماء الغسيل” ويشيع المثقف تشييعاً نهائياً إلى مثواه الأخير: مثوى الصمت، مثوى العجز، مثوى الاستقالة المفروضة أو الاختيارية . والحال أن الحاجة إلى المثقف ما زالت حاجة قائمة وراهنة، بل هي حاجة اشتدت وتعاظمت بتعاظم النكسات والهزائم التي شلت الكيان العربي قيادة وشعوباً، ثقافة وسياسة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق