23‏/05‏/2011

معجزة أنغولا




محمد ولد الشيخ أحمد -
 الجزيرة توك - أنغولا
في أثناء تجولي داخل أروقة ومباني ذلك المركز العتيد، عادت بعض الذكريات الجميلة لتشغل صفحات ذاكرتي من جديد، بعد أن هجرتها لبعض الوقت، سوف أحكيها عليك فيما بعد.عندما سمح لي البواب بالدخول اكتشفت لأول مرة أن في هذه أرض (آنغولا) أيضاً رائحة جمال يمكن أن تفوح عليك بشكل مفاجئ، لم أكن أتصور أن وسط هذا الازدحام الحالك هنا من بعيد نور لامع وهداية ناشئة.
"مركز النور" لتربية الأطفال وتنشئتهم على الدين الاسلامي كانت إحدى المفاجآت الأهم التي أثارت انتباهي طوال الأشهر الثلاثة الماضية.

ستون طفلاً مسلماً يشكلون كتلة مؤمنة تتولى التسبيح في هذا الركن من كوكبنا العامر. قبل سنوات كان الهاشمي مراقباً لنمو أولئك الأشبال. يعتبرهم جيل التأسيس الإيماني الذي يتعلق عليه الأمل في إزالة هذا الظلام الحالك. ونحن في الطريق قال لي "سعيد" أحد المتطوعين في المركز ستتأثر عندما تدخل هذا المركز. وفعلاً وجدت أن الأمر كما قال، بيوتات متناثرة على جباهها لافتات عتيقة كتب عليها اسم الله بالحرف العربي مشيرة إلى بلوغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار.
 
إنها حقاً معجزة. أن تجد على جانب هذا التيار الغارق في الكفر الذي يتهادى وينعطف بانعطاف هذه الشوارع البئيسة كتلة إيمانية تنتظم هؤلاء الأطفال البرُءاء. الذين يشكلون نواة أصيلة لكتلة إسلامية إيمانية على منهج محمد صلى الله عليه وسلم تمد جذرها لتتأصل وتترسخ في هذا الفضاء القاتم. كأن السر والحكمة من حياة كل هؤلاء الناس الذين يملؤون الشوارع في "ظلام" دامس أن يخرج من أصلابهم هؤلاء البراعم ليطلوا على ساحة الحياة من الداخل، حاملين لواء دين طالت غربته في أدغال هذه القارة السمراء.

جلست إلى جانبهم لبعض الوقت وهم يقرؤون بشكل جماعي ومنظم: "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" إنها دلالات متكاملة على قوة هذا الدين الذي ظل طوال قرون مضت يتحرك لوحده حتى تغلغل في هذه الأدغال البعيدة.
سعيد قال لي: إن المركز كان يتبع في السابق لـ"لجنة مسلمي إفريقيا" قبل أن يسخر الله له رجلا قادماً من بلاد الشام ليتولى مهمة القيام عليه بمفرده ويحتضن فيه العشرات من الأيتام والمشردين وأطفال الشوارع حتى، فظل يشمخ بنفس الاستعلاء الإيماني وطموح المعرفة الحضارية، متحديا كل صعاب الحياة هنا إلى أن سلمه لآخرين واختفى عن الأنظار. 
ووددتُ ـ في الواقع ـ لو رأيت هذا الشامي الذي ما زالت آثاره بادية على أوجه بريئة لأطفال نسيهم الأهل وبقوا لوحدهم يبتسمون لكل زائر مسلم ليقولوا: نحن هنا مددكم يا أتباع محمد.
وعلى جدران بنايات متهالكة تصدع بالفكر الإسلامي الأصيل. كتب على بعضها حرف عربي وحيد ربما لم يعرف كاتبه حرفا عربيا غيره ليبقى ذلك الحرف شامخ الرأس وصامداً هنا منذ سنين مضت رغم الغربة والتعطيل.
ثمة في الجانب الغربي للمركز مسجد يترجم المعاني الإيمانية باللغة البرتغالية لغة الناس هنا.. منه تنطلق تحديات التكبير بأصوات الصغار. لتوصل صوت التوحيد وإعلان البراء إلى المدى الأقصى. وتحت القبة الضامة لقلوب الصغار في أكناف حنانها تلقين لمعاني الإسلام وقيمه الرفيعة. في إشارة إلى تميز تلك الكتلة المسلمة واستقلالها ومكانتها الخاصة التي تأبى الاختلاط.
خواطر عديدة ما زالت معي من تلك الزيارة الخاطفة التي أثارت في نفسي مشاعر مختلطة:
فرحت أشد الفرح بوجود "نور" لامع وسط هذا الظلام الحالك. ضوء ينبع من الداخل كشاهد لصحة حديث: ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار. نور يقف شامخاً في زاوية العاصمة الآنغولية لوندا. يكشف عن هويته وعقيدته بكل استعلاء وشموخ وعزة. يتقدم إليك الأشبال ببسماتهم البشائرية يغرونك بإقدام.
لاحقا...
وأنا أسير تحت ظل شجيرات يقعن في شمال المركز سألت نفسي هل بإمكاني أن أترك ثمة أثراً ليبقى شاهداً على أنني مررت ذات مساء من هنا؟ كانت الإجابة في بالي قريبة جداً من "نعم" لكن لم تكن بحوزتي ساعتها الآلة البيضاء التي كان العظام يحفرون بها آثارهم على صفحات التاريخ. 
لا أحب أن أقلب الصفحة قبل أن أجد تلك الآلة رغم أن كل الأشياء هنا غالية الأسعار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق