18‏/06‏/2011

من المثقف العضوي إلى مثقف «الفايسبوك»



الجمعة, 17 يونيو 2011
ماجد كيالي *
لأشهر قليلة خلت لم أكن اتعاطى البتّة مع الصفحات، أو المواقع، الإعلامية على شبكة الانترنت، ولا مع شبكات التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر ويوتيوب)، كحال معظم أصدقائي ومعارفي الذين هم من جيلي.
ما كان ذلك بداعي كسل مني، ولا تقليلاً من شأن هذه المواقع والشبكات، وإنما لضيق الوقت، ومن باب الحرص على إعطاء حيّز اكبر من أوقات الفراغ للقراءة الورقية (الصحف والدوريات والكتب)، ولفكرة سائدة مفادها أن معظم هذه المواقع والشبكات إنما هي بمثابة دواوين، أو مقاهٍ، للثرثرة، وبالتالي فهي شغلة من لا شغلة لهم.
منذ بضعة أشهر، فقط، بدأ يخيّل إليّ أن ثمة شيئاً في غاية الأهمية قد فاتني، لم أكن تنبّهت إليه كما يجب، وفي الوقت المناسب، ألا وهو الشبكات العنكبوتية، أو شبكات التواصل الاجتماعي.
منذ ذلك الــوقت، أي مـــنذ شــرعت بإعداد صفحتي على شبكة «الفايسبوك»، لحظت أن ثمة قوة «مغناطيسية» تشدني إلى هذه الصفحة، وغيرها من صفحات الأصدقاء الذين اعـــــرفهم، والذين بتّ أتعرف إليهم، وهم كثر جداً، ورائعون ورائعات، بحيث إن ذلك بات يأخذ حيزاً كبيراً من وقتي (الذي أضنّ به)، وكذا من اهتماماتي؛ حتى حيّز الزمن للقراءة الورقية تقلص لمصلحة هذا الوافد الجديد، والقوي، والعنيد.
هكذا بت أعيش في زمن جديد، إنه زمن «الفايسبوك»، الذي يأخذك بدهاليزه من حيث لا تدري إلى حيث لا تحتسب، وفي نقاشات ومجادلات تنزل عليك كالمطر المنهمر، حيناً، أو كحبات البرد حيناً آخر، وكالرياح العاصفة في كثير من الأحيان.
المريح في نقاشات الفايسبوك أنها غالباً ما تأتي على شكل كلمات خفيفة، رشيقة، ومرحة، لا سيما إذا جاءت مصحوبة بابتسامة صاحبها (أو صاحبتها)، كما قد تأتي على شكل سخرية لاذعة، لوضع مأسوي وكاريكاتوري (في الوقت نفسه)، وكمحاولة للتحايل على ثقل الواقع بمقاومته بسخرية تفضح تناقضاته.
وما أراحني، وهدّأ قليلاً من روعي، في هذه المغامرة الفايسبوكية، أنني لاحظت أنني لم اذهب في هذا الاتجاه وحدي، وأن الأمر شمل، أيضاً، أصدقائي ومعارفي، الموزّعين على أرجاء الكرة الأرضية.
في عودة إلى الخلف يمكنني اعتبار موقفي تجاه هذه الشبكات، بمثابة بموقف رجعي، إزاء هذه التكنولوجيا وإزاء مستخدميها (أو المدمنين عليها)، تماماً كموقف الأنظمة التي تعاند التغيير والتجديد والإبداع، والتي تفضل إبقاء القديم على قدمه، كي تحافظ على يقينياتها، وعلى استقرار مصالحها، وهيمنة سلطاتها. لذا ربما كان جيلي بحاجة حقاً إلى صدمة (مثله مثل الأنظمة المتسيّدة)، بحجم الثورات الشعبية، التي اجتاحت حياتنا الرتيبة، وقلبتها رأساً على عقب، لحضّه على مراجعة يقينياته، وأدواته، ومفاهيمه، ونظرياته النمطية.
هكذا، فعلت بنا هذه الثورات التي جاءت على حامل شبابي، وفايسبوكي، أشياء كثيرة. فهي أقنعت من هم من جيلي، بأن زمن الأبوات (مع زمن السلطات المطلقة) انتهى، وأن الجيل الشاب اخذ زمام المبادرة لإسماع صوته، واحتلال مكانته عن جدارة. وما فعلته هذه الثورات أنها، أيضاً، أيقظت الروح الثورية، أو التغييرية، عند هؤلاء، بعدما كانوا اشتغلوا على تهذيبها، أو عقلنتها، طويلاً.
فوق ذلك كانت لهذه الثورات قيمة معرفية، إذ إنها لفتت انتباهنا إلى حقيقة أن معرفتنا ببيئاتنا، وباحتمالات تطورها، لم تكن مطابقة، وإنما مسبقة، وقاصرة، ومنمطة، ونظرية بحت؛ على الأقل هذا ما أثبتته الرياح العاصفة، التي هبّت من تونس إلى اليمن، مروراً بمصر والجماهيرية وسورية، والتي أثبتت أن شيئاً كثيراً كان يعتمل في نفوس الأجيال الجديدة من الشباب، وفي مجتمعات هذه المنطقة.
أكثر ما كان مجهولاً عندي، وربما عند كثيرين من جيلي، هو هذا الجيل الجديد من الشباب، إذ كان ثمة نوع من قناعة سائدة مفادها بأن شباب اليوم لا هموم عامة لهم (وكل شيء بالقياس لأجيال الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي!)، وأنهم مجرد مستهلك للتقنيات التكنولوجية، ومجرد مقلد للصرعات الغربية، وأنهم بالكاد يجدون الوقت لتدبّر أوضاعهم الخاصة، وسبل معيشتهم، وأنه يميلون إلى الخصوصية، والذاتية، تساعدهم في كل ذلك وسائل الاتصال والإعلام الحديثة (من موبايل وانترنيت وفايسبوك وتويتر ويوتيوب).
لذا ما كان يخطر في بال من هم في جيلي أن ثمة شيئاً كبيراً وعميقاً وحقيقياً يعتمل في نفوس هؤلاء الشباب، غير الاهتمام بحياتهم الخاصة، حيث لم نلحظ، تماماً، أنهم أكثر وأسرع استيعاباً لمنجزات الحداثة وتكنولوجياتها، وأنهم أكثر إقبالاً على معرفة الآخر وتفهم أوضاعه، وأكثر توقاً لمحاكاته (وخذ تزايد نسبة تعلم اللغات). كما لم يخطر في البال أن هذا الجيل سئم حال الركود في أوضاعنا، وأنه على هدوئه أكثر ميلاً الى التمرد، من دون حساب، على الآباء (البيولوجيين أو المعنويين)، وأنه أكثر جرأة على طلب التغيير؛ لأن ذلك يحمل له معنى جديداً للحياة، بما في ذلك العيش في عالم أكثر حرية وكرامة وعدالة وتكافؤاً في الفرص.
بالنسبة إلي (وربما للكثيرين)، فإن هذه الثورة على الآباء، وعلى السلطات (بكل أنواعها)، أخذتني إلى مراجعة أفكاري عن هذا الجيل، وشجعتني على التعرف إليه، وإلى أدواته، عن كثب. وقد عزّز من هذا التوجه شيء من نزعة نقدية لدي، وبعض من روح «ثورية» (عملت طويلاً على مصالحتها مع الواقع)، وكثير من مشاعر الاحتفاء بهذا القادم، الجديد، الذي طالما حلمنا به، في أعمارنا.
هذه هي بداية القصة، يعني إذا أردت أن تتعرف إلى الجيل الجديد، كيف يفكر؟ وبماذا يفكر؟ يجب أن تشتبك معه، في علاقات تواصل تفاعلية، وليس انسب لذلك من عالم الشبكة الافتراضية الفايسبوكية، من اجل ذلك.
في الواقع، فإن هذه الشبكة تعقد نوعاً من «المصالحة» (إن جاز التعبير) بين كل الأجيال، فهنا ليس ثمة كبير وصغير، معلم وتلميذ، قائد ومقود، وليس ثمة تمييز بين رجل وامرأة (محجبة أو غير محجبة)، أو بين غني وفقير، أو بين دين ودين، أو إثنية وأخرى، هنا ثمة تراتبية أفقية لا عمودية، وديموقراطية مدنية وإنسانية منفتحة، وهنا ثمة تواصل وتفاعل في كل الاتجاهات بغض النظر عن الألقاب والأعمار والدرجات؛ وبالطبع ثمة، أيضاً، خلافات، وحتى «حروب» فايسبوكية.
المعنى هنا انك إذا أردت أن تتعرف إلى جيل الشباب، يجب أن تقنعهم، ليس فقط بالكلام، والتنظير، وإنما باستخدام أدواتهم (الموبايل والفايسبوك وتويتر ويوتيوب...)، وأيضاً، باستيعاب مصطلحاتهم وترميزاتهم وغمزاتهم، وخصوصاً عبر الانخراط بفاعلية في مناقشة أفكارهم هم وهواجسهم هم.
هكذا، ففي هذه المغامرة في البحار الفايسبوكية لم اخسر، وإنما ربحت الكثير، إذ خرجت من إسار الحدود التي قيدت نفسي بها، بسبب العمر او بسبب طبيعة العمل والاهتمامات، إلى رحاب جديدة، فضلاً عن انني تعرفت إلى رائعين ورائعات، واكتشفت أن كثيراً من اصدقائي ومعارفي، إلى جديتهم يحملون في مكنوناتهم روح الدعابة، ولوثة الشعر، إلى جانب الثقافة. وبسبب المغامرة الفايسبوكية هذه، استعدت، أيضاً، علاقتي مع عالمي، وبخاصة مع هذا الجيل الصاعد من الشباب، وبتُّ أكثر تفهماً لهواجسهم ولحماستهم ولجرأتهم، كما بتُّ أكثر ثقة بمستقبلهم. 
* كاتب فلسطيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق