09‏/06‏/2011

تشققات في الكيان الأوروبي



آخر تحديث:الخميس ,09/06/2011
جميل مطر
كنا، قبل عقد أو عقدين، شهوداً على أوروبا الموحدة وهي تتوسع، وأخشى أن نكون الآن شهوداً على أوروبا وهي تنكمش . تابعناها تنشأ ولم يتجاوز عدد مؤسسيها ست دول، وتابعناها وهي تتعمق رأسياً، تقيم مؤسسات قوية ويدعم بعضها بعضاً، ثم رأيناها تتوسع أفقياً مساحة وسكاناً ودولاً حتى بلغ عدد أعضائها سبعة وعشرين . الآن نتأملها وهي تنكمش قيماً ورسالة واقتصاداً ونفوذاً دولياً . نتأمل خوفها على هويتها وترددها في استكمال مسارها الاندماجي وانقلابها على أحلام اندماجها ووحدتها . مرت عشرون سنة على سقوط حائط برلين . وقتها كان الظن لدينا والحلم لديهم أن عشرين عاماً ستكون فترة كافية ليكتمل البناء الأوروبي الموحد . وخلال هذه الفترة وقعت إصلاحات مؤسسية وتم توقيع اتفاقية لشبونة التي صيغت وأقرت لتكون الجسر الذي تعبر منه أوروبا إلى القرن الحادي والعشرين . ورغم ذلك توقف البناء الأوروبي، بل انتكست مسارات وظهرت علامات تعب وإنهاك . كنا شهوداً بل لعلنا كنا أقرب الشهود، فبحكم طبيعة الجوار الجغرافي والتقارب الحضاري ونسائم الربيع العربي، كنا نراقب المدى الذي يمكن أن تصل إليه الوحدة الأوروبية في التأثير في مسيرة ربيعنا في عالم تجتاح معظم أركانه عواصف الأزمة المالية العالمية، وتعقيدات الخروج الأمريكي من مستنقعات الاحتلال في أفغانستان وباكستان والعراق .

نعرف أن أوروبا، الموحدة، أو غالباً أوروبا الدول، كانت تؤيد وتدعم حكومات عربية مستبدة، كانت تلمع صورهم وتشدو بحكاياتهم وحسناتهم وتعتم على فسادهم، وبعضها مشارك فيه . وعندما هلّت بشائر ربيع العرب وازدانت مدن عربية عديدة بألوان الثورات الخلابة، وارتفعت في صخب وحماسة توقعات الشعوب العربية كافة، جاء رد أوروبا الموحدة خفيفاً وبطيئاً وخجولاً وكسولاً، وأكاد أقول كسيحاً . هذا الرد كان في رأيي القشة التي قصمت ظهر السمعة الدولية لأوروبا .

لا أبالغ إن قلت إن الثورات العربية لو كانت قد انتهت بالفشل مبكراً، لما كنا اليوم نقف شهوداً على إعلان الفشل الأوروبي في وضع سياسة خارجية موحدة . أضيف أنه لو واصلت الثورات العربية مسيرتها على الطريق الشاق الذي اختارته لتصل بشعوبها إلى الديمقراطية، صاعدة حيناً وهابطة حيناً آخر، منتصرة تارة ومنكسرة قليلاً تارة أخرى، متأكدة وواثقة مرة ومترددة ومتشككة مرات، ففي الغالب ستزداد أوروبا انقساماً حول صيغة للتعامل مع هذه الثورات . لن تكون أوروبا الموحدة مؤثرة إن أرادت التأثير . إن الفشل الأوروبي الراهن في الاستفادة من ربيع العرب، سيؤكد لكل الشعوب أن أوروبا قوة دولية فاقدة النفوذ ويجب ألا يحسب لها حساب . أوروبا التي لم تفلح في أن يكون لها دور في الشرق الأوسط، حين واتتها الفرصة الذهبية، سبق لها أن أضاعت فرصة ذهبية أخرى حين كان متاحاً لها ضم تركيا للاتحاد الأوروبي .

هناك شعور بالإحباط لا شك في وجوده في أوساط النخب الأوروبية، وكذلك بين الشعوب . كان المتوقع مثلاً أن تعود الإصلاحات المؤسسية، التي أدخلت خلال العقد الأخير، بالفائدة على السياسات الخارجية الأوروبية . وهو ما لم يحدث .

إن اختيار هرمان فان رومببي رئيساً للمجلس الأوروبي، وكاثرين آشتون ممثلاً أعلى للسياسة الخارجية، وإنشاء إدارة متخصصة للعمل الخارجي الأوروبي، لم يغير شيئاً في حالة الشلل والتخبط السياسي . إلا أننا ربما نكون من الظالمين إذا ركزنا على مسؤولية أفراد ومؤسسات عن الشلل والفشل، وأهملنا تطورات أشمل وأعمق حدثت في أوروبا في السنوات الأخيرة، أهمها على الإطلاق الميل المتزايد في أوروبا نحو العودة إلى التقوقع القطري والتعصب القومي .

لا يمكن إنكار أن التعصب القومي آفة أوروبية أصيلة، بل لعلها الآفة التي تخصصت أوروبا دون غيرها من قارات العالم في صنعها وممارستها وتصديرها إلى العالم الخارجي على امتداد قرون . ولا يمكن إنكار أننا حبسنا أنفاسنا في انتظار أن تقضي أوروبا الموحدة على هذه الآفة وتستأصلها . ولكننا فوجئنا بالعكس يحدث . بعضنا لا شك يذكر أن إيطاليين قاموا بإشعال النيران في معسكرات يسكنها الغجر قبل 3 سنوات، ونذكر الحملة التي شنتها حكومة فرنسا لترحيل الغجر المهاجرين إليها من دول في أوروبا الموحدة . ومنذ ذلك الحين ورغم الضجة العالمية التي أثارتها حملة الكراهية ضد الغجر، ورغم موقف المفوضية الأوروبية استمرت مشاعر التطرف القومي تتصاعد وتكسب أراضي جديدة لم يسبق أن عُرف عن أهلها التطرف والتعصب، مثل فنلندا والسويد وبريطانيا والمجر، واشتد عود التعصب في دول كان حاضراً فيها مثل إيطاليا وفرنسا وهولندا والدنمارك .

يوجد بين المعلقين والمحللين الأوروبيين من يبالغ في توصيف الانتكاسة الأوروبية وحصر أبعادها . يوجد من يعدّ الموقف الألماني من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتصر شعوب البرتغال وإيرلندا وإسبانيا واليونان بأنها تعيد إلى الأذهان سلوكيات التعالي البروتستانتي على الكاثوليك والأرثوذكس . المبالغة هنا واضحة ومثيرة ولكنها تعكس طيبعة رد الفعل لدى شعوب جنوب أوروبا للموقف “الأبوي” الذي اتخذته حكومة أنغيلا ميركل من الأزمة الناشبة في منطقة اليورو . تعكس أيضاً مشاعر لا يخفيها الرأي العام الألماني تجاه الدول الأوروبية التي لم تحقق استقراراً اقتصادياً مناسباً أو التي أساءت في نظره توزيع أوجه الإنفاق في موازناتها، ولم تتحكم في حجم الديون التي استدانتها لتسوية العجز . هذه الدول تطالبها ألمانيا بالتوقف عن ممارسة سياسات مالية غير مسؤولة والتقشف في الإنفاق، وهو الطلب الذي تعدّه شعوب هذه الدول أسلوب إفقار، وتطبيقه يعني مزيداً من تفكيك المجتمعات والعائلات الأوروبية لما سيجره من هجرات جماعية للشباب للعمل في الخارج .

* * *

يقع الشبان في قلب هذه الأزمة الأوروبية، ليس فقط لأنهم في العديد من الدول الأوروبية صاروا الفئة العمرية التي تتحمل عبء تمويل جانب كبير من تكلفة الرعاية الاجتماعية لفئة كبار السن وهؤلاء يزدادون عدداً، ولكن أيضاً لأن أكثر من نصفهم صار في بعض الدول عاطلاً عن العمل . كان الشبان يشكلون النسبة الأكبر بين المتظاهرين الذي خرجوا في 11 مدينة من مدن البرتغال، وكانوا أغلبية بين المعتصمين في طريق الحرية في لشبونة على امتداد أسابيع بدأت في مارس/ آذار الماضي . كانوا أيضاً أكثرية بين المتظاهرين في مدن عديدة من إسبانيا، خاصة بين المعتصمين لأيام عديدة في ميدان بوابة الشمس في العاصمة مدريد . هؤلاء رفعوا الشعار الثوري الرائع الذي رددته حناجر مئات الألوف في مدن أوروبية وعربية عديدة “إذا لم تتركونا نحلم لن نترككم تنامون” .

شقوق هنا في الكيان العربي وشقوق هناك في الكيان الأوروبي . تقع مسؤولية هذه الشقوق وما يستجد عليها على عاتق الطبقة السياسية التي صنعت الأزمة هناك والطبقة السياسية التي تسببت في صنع أزمة هنا، واستوردت من أوروبا مقومات أزمة بل أزمات أخرى كثيرة . هنا وهناك يقف بالمرصاد جيل جديد من رجال ونساء وشباب وكهول يحلمون ويتبادلون أحلامهم . والخطر كل الخطر في أن يجرب أحد أو جهة أو تيار أن يحرم هذا الجيل المتربص والمسيس من الاستمتاع بهذه النعمة وممارستها، نعمة الحلم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق