18‏/06‏/2011

هواية جمع القمامة



محمد محمود الشيخ أحمد ـ الجزيرة توك - آنغولا
في كل يوم تقريبا نمر بمشهد جديد من مشاهد حياة افريقيا الرثة ، لكننا لا نستطيع أن نميز بالتحديد بين المشاهد التي سوف تظل تتكرر وتفرض علينا نفسها من جديد وبين المشاهد التي سوف تختفي عن حياتنا إلى الأبد .
عندما كنت أعيش في مدينتي الصغيرة كانت لدي علاقات خاصة وحميمة جدا مع الشارع القريب من منزلنا، ومع المنازل والشجيرات القريبة ، ومع كل العناصرالتي تشكل المشهد الذي ألفته لسنوات طويلة حتى إنني أستطيع الآن أن أعيد رسم المشهد بكل تفاصيله . كل شيء آنذاك كان جميلا ومألوفا كان بإمكاني أن أغمض عيني وأسير كما لو كنت أفتحهما.
وفي المرة الأخيرة التي مررت من ذلك الشارع الجميل ونظرت إليه بتأمل فكرت أنها ربما تكون هي النظرة الأخيرة التي ألقيها عليه . لأنه من الممكن أن تتغير معالمه بعدي وممكن أيضا أن أتغير أنا بعده.

وهنا لم أستطع بأي حال أن أكون علاقة مع أي من الشوارع الكثيرة التي سكنتها في رحلة الغربة هذه ، لا أعرف هل لأننا ما زلنا لم نقتنع بأننا نسكن فعلا في هذه البلاد النائية ، أو لأن أي علاقة جادة تتطلب وقتا أطول.
مختار يقول إن أغلب المهاجرين غير مقتنع بأن الفترة التي يقضونها هنا هي جزء لا يتجزء من حياتهم وعليهم يعيشوها راضين بأنه قدر قدر عليهم، بدل أن يبقى الواحد منهم يعتبر نفسه مسافرا دوما وهو في الواقع باق هنا إلى أجل غير مسمى.

الطريق الرابط بين المنزل الذي نسكنه هذه الأيام وبين محل العمل يختصر كلتفاصيل الحياة هنافيبداية الطريق مكب كبير للقمامات تزدحم فيه جثث السيارات التالفة مع "جنازات القطط والكلاب وأكواب الزجاج الفارغة. لتشكل المشهد المعهود بالنسبة لكل من كتب عليه أن يعبر كل صباح تلك الشوارع السحيقة. المشهد هنا شبيه إلى حد بعيد بمشاهد مشابهة مررت بها في دول افريقية أخرى إذا استثنينا بعض التفاصيل المتعلقة بملامح "العابرينوطريقة وشكل لباسهم وربما تصورهم للعالم من حولهم وفهمهم للحياة.
بعد أن نمر ـ في الشارع ـ بمنعرجات متمايلة وبعض الحفرالمختلفة الحجم نصل إلى سور طويل يضم بداخله عشرات الجثث البشرية المنتهية الصلاحية للحياة، نسميه نحن مقبرة ويسميها الناس هنا (سيميتيريو)cemiterio

كل شيء هنا وفي العام الخارجي أيضا له مدة صلاحية محددة، تنتهي عندها صلاحيتهل ووظيفته التي جاء من أجلها . الناس، والقطط، والكلاب وعلب الحليب وأكواب الزجاج.. أعني كل شيء تقريبا. وعند انتهاء صلاحية أي شيء يرمى في مكبالقمامة إلى الأبد. بعض الآنغوليين اكتشف أخيرا أن القمامات يمكن أن تعاد للحياة من جديد وأصبحنا نرى الكثيرين من البؤساء يأتون في الصباح الباكر للمكب القريب من المنزل لانتقاء بعض القمامات "المهمةوالغريب في الأمر أنالناس هنا اكتشفوا أن القمامة يمكن أن تعاد للمصنع وبالتالي للحياة من جديد.. لكن الكثيرين منهم ما زالوا لم يكتشفوا بعد أن الإنسان هو الآخر سوف يعو دللحياة مرة قادمة.
وربما يكون أهم سبب لهذا البؤس والحرمان الذي يعيشه الكثير من الناس هنا هو أنهم يعرفون عن القمامة ووظيفتها أكثر مما يعرفون عن ذواتهم كبش روعن وظيفتهم في الحياة لذلك أعتقد أن بؤس أي إنسان وانحطاطه في الدرك الأسفلمن جحيم الحياة ليس ناتجا بالضرورة عن الجوع أو المرض أوالفقر بقدر ما هوناتج عن ضياعه في ظلمة الجهل. الجهل بالإنسان وبالحياة.
لأن الجهل وحده هو الذي يستعبد الأنسان ويسلبه الإحساس ليعيش حياته في جحيم البؤس والشقاء اللامتناهي, هناك مشاهد من الرثاثة تجعل تنطق بدون شعور : الحمد لله على الإيمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق