12‏/08‏/2011

دور الفرد في العملية السياسية : بين التهميش والحاجة لمواطن من نمط جديد



تدخل اشكالية دور الفرد في العملية السياسية ضمن القضايا الحيوية التي لم تجد بعد في علم السياسية الاجوبة الشافية لها. واولى الفلاسفة والمؤرخون والادباء وعلماء الاخلاق والاديان والنفس اهتماما بالغا لهذه المشكلة. وتندرج المشكلة في علم السياسة ضمن القضايا التي لم تجر دراساتها بعد بصورة كافية.ووفقا لمختلف المعطيات فان عدد الاعمال التي كُرست لهذه القضية تاتي في المرتبة الاخيرة ضمن لائحة الاصدارات التي تتناول جوانب علم السياسية، ويرصد الكثير ان ذلك مرتبط بسعي علماء السياسة للالتزام بالموضوعية واهمال العامل الذاتي. ولذلك وضعوا الفرد خارج قوس العملية اما لانهم يعتبرون تاثيره على الاحداث السياسية محدودا للغاية، او انهم لم يمتلكوا لحد الان مناهج البحث اللازمة التي تتيح لهم الاخذ بنظر الاعتبار خصوصية الفرد ومواصفات شخصية اؤلئك الذين يصنعون السياسة.
وثمة مؤشرات على ان الوضع بات في السنوات الاخيرة، يتغير ببطئ في علم السياسة المعاصر ومع تطور علم النفس السياسي.ويعترف غالبية علماء السياسة اليوم باهمية دراسة عامل الفرد سواء الفاعل او المواطن العادي، في سير العملية السياسية.
ان عدم قدرة المنهج المؤسساتي((Institutional approach في علم السياسة على التنبؤ بالتحولات الجذرية التي شهدها العالم في بداية عملية البناء البيريسترويكا في الاتحاد السوفياتي السابق، اصبحت احد الاسباب لاهتمام علماء السياسة بدراسة هذه الظاهرة. وكان الكثيرون قد تساؤلوا حينذاك كيف كان يمكن ان تتطور الاحداث في روسيا والعالم لو ان اللجنة المركزية لم تنتخب عام 1985 ميخائيل غورباتشوف وانما اندريه غروميكو الذي شغل لفترة طويلة منصب وزير الخارجية السوفياتية ومن ثم اصبح رئيسا لمجلس السوفيات الاعلى، او رئيس اللجنة الحزبية لمدينة موسكو فيكتور غريشين سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي السوفياتي؟.ان كافة المواصفات الشخصية للزعيم السوفياتي كان لها اهمية كبيرة في التغيرات التي حصلت، مما استدعى الكثيرين اعادة النظر في المنهج التقليدي للدراسات السياسية.
ان غالبية المواطنين من غير خبراء السياسة يركزون في اطار اهتمامهم السياسي على الافراد الذين يصنعوم السياسة، لأنهم يودون ان يعرفوا المزيد عن سيرة حياة اؤلئك الذين ساهموا بتغير وجه العالم.ويحظى باهتمامهم حياة الساسة اليومية وسلوكهم وذوقهم ومحيط عوائلهم واهتماماتهم الرياضية والكتب التي يطالعونها. وليس من الصدفة ان يذهب البعض الى اننا حينما سنفهم السياسي كانسان فتنكشف لنا اسرار تصرفاته السياسية.
ما هو وزن الشخصية؟
لقد تشكل موقفان في الفكر السياسي من تاويل مشكلة الفرد. الاول يضفي على دور الفرد اهمية حاسمة بتحديد مسارات العملية السياسية وتقلباتها.وغالبا ما يربط انصار هذا الاتجاه المتغيرات على السياسية بشخصية الزعماء والقادة والفعاليات الاجتماعية الاخرى.وكان المفكر الفرنسي باسكال قد قال "لو ان انف كليوبترا كان اقصر بقليل او اطول بقليل لكانت هناك صورة اخرى تماما للتاريخ البشري".
وفي اطار هذا المنطلق ساهم كبار المفكرين منذ نهاية القرن العشرين في مناقشة الموضوع بما في ذلك ليف تولستوي وجيورجي بليخاوف وجيمس وكاريليل.وكان من بين الاعمال التي صدرت عنها دور الفرد لبليخانوف والابطال لكاريليل والبطل في التاريخ لسيدني هوك وعبقريات محود عباس العقاد.ويبرهن دعاة الموقف الاول على دور الفرد في التاريخ عموما وفي السياسة على وجه الخصوص، واهمية المواصفات التي يتحلى بها القادة:مثل العبقرية السياسية والمواقف والمعارف والخبرات والمكانة. وكما نرى فان خصائص الشخصية تكتسب اهمية اكبر من الموقف السياسي لهذا الشخص او ذاك. وفي هذا المنحى يعمل علماء السايكولوجية السياسية الذين يعتبرون ان مركب عقد الساسة لا مواصفاتهم، هو الذي يحفزهم للانخراط في العمل السياسي.ويرون من خلال دراساتهم للشخصيات السياسية ان مركب النقص الذي نشأ نتيجة لاصابات يتعرض لها السياسي في المراحل الاولى من تكوين شخصيته تعبئة لتحقيق منجزات حياتية لا تقارن بالمنجزات التي يحققها اقرانه الذين ترعرعوا في ظروف عادية.
اما الموقف الثاني، وعلى العكس من ذلك، يقلل من دور الفرد.وثمة اختلافات بين انصار هذا المنحى. فيرى عدد من علماء الاجتماع السياسي ان الخصائص الفردية تطفئ بعضها البعض الاخر في اطر العملية السياسية. لذلك من المفيد ان لا ندرس القوانين الفردية وانما الجماعية في مسالة تقسيم الادوار السياسية مثلا. ومن حق الخبير السياسي ان يهمل الشخصية.
ويتبنى علماء السياسة، الذين يعتقدون ان العامل الفردي لا قيمة له مقارنة بالعامل الاجتماعي، موقفا مغايرا.ويقدم المنظرون الماركسيون العامل الاقتصادي على السياسي باعتباره عامل مهيمن. ويركز علماء السياسة الذين يتبعون المنهج الوظائفي،على دراسة المكونات الاجتماعية للاحزاب والمنظمات والحركات السياسية.والقاسم المشترك بين الاتجاهين كونهما يضعان الشخصية خارج نطاق العوامل التي ينبغي البحث فيها عن الاسباب التي تلقي الضوء على توجهات العمليات السياسية الكبرى.

الفرد العادي
بيد ان الاتجاهين يركزان على دور الفرد غير العادي.وتدور اغلب السجالات بينها حول دور الزعيم السياسي.ونظرا للمواطن العادي على انه رقم او جزء من الدهماء.ورغم ايلاء الاعمال التي تبحث مشكلة دور الفرد في السياسة وكالسابق، اهمية اكبر لشخصية الساسة الفاعلين،الا ان المشاكل المتعلقة بالمواطن العادي باتت في الدراسات الاخيرة تاخذ مكانا اكبر على حساب اؤلئك الساسة الذين يشاركون بصنع القرار .ان انخراط الشرائح الاجتماعية التي كانت مهمشة في الماضي بالعملية السياسة، طرحت وبحدة على علم نفس السياسة وعلم السياسية اجمالا ، السؤال عن كيفية تأثير الميزات الشخصية بما في ذلك للمواطن العادي، على المشاركة بالسياسة.
واضافة الى الكشف عن مكانة الفرد في العملية السياسية فثمة قضية هامة اخرى تطرح في نفسها على علم النفس السياسي، متمثلة بمحاولة فهم مضمون العلاقة بين الفرد العادي والعملية السياسة. لقد ترسخت في تاريخ الفكر السياسي تصورات ثابتة انعكست في اعمال العديد من المفكرين. ويركز احد مفاهيم العلاقة بين الفرد والعملية السياسية على موضوعة ضرورة "خضوع" الفرد للدولة. ويفسرون وجوب خضوع الفرد هذا الى انسياقه لغرائزه غير العقلانية ولانانيه الغريزية مما يستدعي فرض رقابة والسيطرة عليه. ورغم الاختلافات فلهذه الاتجاهات تصورا مشتركا عن الالية السياسية لاسلوب اخضاع الفرد للدولة والمنظمة والنخبة التي تنظم مشاركة المواطن العادي ودوره في السياسة.وعند ذلك تقوم الشخصية بدور المُكَون السلبي الذي يحتاج لآلية ما فوق شخصية، قادرة على كبح جماح طبيعته الناقصة.
وترصد المدرسة الاخرى في علم النفس السياسي طابعا مغايرا لعلاقة الفرد بالسياسة. وترى هذه المدرسة ان المصلحة الشخصية هي مصدر الحركة بما في ذلك في العملية السياسية.وتكون
" المصلحة" في النظام الاجتماعي والسياسي كنتيجة طبيعية لامتزاج مصالح مختلف الافراد: لذلك ليس ثمة حاجة لممارسة القوة والقمع، بل ينبغي السعي لان يعي الفرد منفعته ومصلحته الخاصة من الجهود المشتركة للمجتمع والدولة.وتنظر هذه المدرسة للشخصية على انها غاية النشاط السياسي ومادته، وهذا من بديهاتها الهامة. ويتخذ منظروا هذه المدرسة من المحافظين الجدد المعاصرين موقفا سلبيا حادا من كافة اشكال ومظاهر الجماعية ومركزية السلطة وخضوع الفرد. وينظرون لمشكلة البنية السياسية والسلطة والحريات من منظار فردي.
نمط جديد
ان دراسة هذه القضية تظهر ان العلاقات المتبادلة بين الفرد والسياسية تخضع لقوانين ذات مستويات مختلفة، تترك بصماتها على بعضها الاخر، تخلق وضعا خاصا لتطور الفرد وتؤثر على سير التطورات السياسية. ان الشخصية تتطور اليوم في بيئة مُسيسة للغاية.ولكن العملية السياسة تحتج لفرد من نمط جديد تتمثل مواصفاته بان يكون مواطنا فاعلا وقادرا على تبني القرارات بصورة مستقلة وتحمل المسؤولية عنها.ان ظهور مثل هذا النمط على مستوى اجتماعي سياسي يشق له طريقا عبر صراع النزعات المتناقضة في العالم المعاصر.ان تفعيل دور الفرد في السياسة يصبح في العالم المعاصر من ناحية حاجة اجتماعية،ومن ناحية اخرى ثمة مؤشرات واضحة على ان هناك عملية اغتراب سياسية، تتجلى معالمها بتنامي عدم ثقة المجتمع بالسياسة كوسيلة لحل مشاكل الانسان الملحة.ويرى علماء السياسية بتطاحن هذه النزعات، على انه قانون عام للعصر الحديث الذي يشهد اضمحلال مؤسسة فرض الدولة لسيطرتها بوسائل خارجية على الفرد وإضمحلالها ليحل محلها نظام يستمد قوته من الكينونة الداخلية بالاحتكام للضمير والقناعة والقيم التي يؤمن بها الفرد. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق